الخميس، 6 مارس 2008

مسالك المدينة المعطوبة





في جفاف الحنفيات وتصلب الأسلاك وخمائر المستنقعات وثور البصرة التنبل

البصرة- د.جمال حسين علي:

للأعشاب حق التنفس، وللخراف صيانة البرسيم، وللأطفال حرية تجاوز طين الأزقة ولسيدة الطبخ هتاف الماء المج وللحوم نقاؤها وللزهور ورديتها وللبضائع مصرفوها ولليلة الزفاف كهرباؤها وللطور نسيمه وللأذان صوته وللأقداح بريقها وللسجائر قرفها وللحداد ساعده وللحفار بئره وللأدخنة سماؤها، لمن عاش في موطن المياه العذبة والأغصان الوفيرة ومتعة العبقرية ونصل الحكماء وعطر الساقية ودجاجاتها الموهوبات بالتبييض في المدينة المفتوحة على كل الأبواب وأسنة الثروات التي لا يحصيها كتاب ولا تعدها مدونة. وفوق هذا وذاك، لا الرمل صار حريرا، ولا الموجة وصلت شاطئها، ولا النجم استعجل ضياءه ولا كل هذه الجلبة استرجعت حق تذاكر الفرجة في فيحاء المدن الأكثر غرابة من نورس فرض منفاه على نفسه. كلما كنا نسأل عن قريبة أو زوجة صديق معدوم أو جارة قديمة كانوا، يجاوبوننا انها تعمل في البلدية ، ويبدو أن البلدية تحولت الى معقل ضم كل نساء البصرة اللواتي يفككن الخط، فبأي شهادة أو تحصيل علمي يمكن لنساء المدينة إيجاد عمل في البلدية، وعند التفحص والسؤال وتمحيص النباهة، تبين أن عرائض أرامل المعدومين التي قدمت للأحزاب الفائزة بعد السقوط، كلها تم تحويلها الى البلدية، وبذلك حولوا البلدية الى أكبر منتدى لأرامل المدينة ومن فاتهن القطار ومن لم تمر بهن المركبة ولا حتى الشراع. وتمسك النسوة المتجمعات في دوائر البلدية عنوة أو بالترغيب وبالراتب الجديد المغري لجلب الحظ وكسر البخت، بمفاصل المدينة ومشاريعها الخدمية. وإذا صدقنا المثل الشعبي البصري القديم 'المرأة ربت ثور ما كرب' (حتى الثور المعروف بعمله ومثابرته اذا ربته امرأة فلن يعمل)، فأنه وبغض النظر عن تحفظنا لهذا التقريع العنصري ضد المرأة، فإن الوقائع تثبت بأن ثور البصرة فعلا صار تنبلا، وسخا، متهدلا، نحيلا، لا يقوى حتى على أداء واجباته الشرعية!
ماء الإنكليز
البلد المسمى بأنهاره والمدينة التي جمعتهم كلهم وزادت عليهم أضعافا، تعاني من ارتفاع كبير في نسبة الملوحة في المياه الطافحة في الأنهر والجوفية منها، والنسبة وصلت الى درجات من الصعب للغاية عدها مصادر للمياه الصالحة للشربِشربت البصرة من مشروع الإنكليز نصف القرن العشرين (بنوا أول شبكة للمياه العذبة عام 1932)، وفي نهايته وتحديدا عام 1996 بنوا محطة متواضعة بالقرب من المطار، تعالج المياه وتوزعها في 22 قناة أو أكثر بقليل ، ومحطة تبنى في بلد محاصر وعلى ربوع صحراء مدينة 'مارقة' ومحاصرة أصلا من المركز، فلا تجد من يصونها وينظفها ويزيتها، فتدهورت أحوالها بسرعة قبل أن يحصل الوسطاء على عمولاتهم، حين بدأ الناس يعنون على 'مياه الإنكليز' ، فالملوحة زادت حسب المختبرات المتخصصة بنسبة 80 % ووصلت الرواسب في أحواض المحطة (التي تصفي المياه الى أكثر من مترين من الرواسب (التي ليس لها علاقة بما يرمزون لهH2O )ِ ) ولم يتوقف الأمر عند رواسب ارتفاعها مترين في أحواض الشرب، بل نمو النباتات والأعشاب والطحالب في الأحواض نفسها، وثمة احتمال على وجود أحياء نهرية فيها أيضا وسرطانات ودود وزوري وحتى بساطيل الحرس الجمهوريِ.
ماء النبع
هذه المفردة يرددها أي بصري يوميا كلما عطش، ودخلت في اللهجة الدارجة الناس، فما إن تحل ضيفا عند أحد ويقدمون لك الماء حتى يصحبوه بالعبارة المعتادة : 'لا تخف، اشرب، هذا ماء النبع'! وماء النبع، هو ذلك الذي تحمله عربات الحمير وخيول الشرطة المتقاعدة من القرنة حيث يلتقي دجلة والفرات ويكونا شط العرب ليبيعوه للناس بالعربات والخزانات نفسها التي كانوا يبيعون بها النفط بالأمس.وحكمة ماء القرنة لا تحتاج الى دراسة جغرافية، فالأملاح تبدأ في شط العرب الذي يمتاز بتأثيرات البحر عليه لأنه يصب فيه أولا، ولأنه يعاني كالبحر من المد والجزر الذي له تبعات 'ملحية' معروفة، لذلك اخترع 'العربنجية' طريقة يروون بها الناس وجيوبهم بأخذ الماء قبل 'نبع' شط العرب، ومن تلك المساحات الكثيرة لدجلة والفرات المارة بالبصرة والتي سبق وأن سلطنا الضوء عليها.
ماء بدعة
حتى المياه في البصرة صارت 'بدعة' لكن الناس لا يتجنبونها، فهي واحدة من بدع الدنيا التي قدر على البصرة شربها، فالبزنس المحلي تجاوز على حقوق الدولة المستهترة، وأقام مشروعا في مطلع القرن الواحد والعشرين في منطقة 'بدعة' في الناصريةِ ولم يكن مشروعا كبيرا وجديا، بل محطة بسيطة سرقت كل خطوطها الإنتاجية من مصانع الدولة التائهة، لتخصص منتجاتها الى البصرة تحديداِ وكان الماء يعلب في علب خاصة ويباع أغلى من البنزين في البصرة التي لا يكفيها بالطبع الماء المستورد من 'بدعة'.
مشروع آخر ومماثل جدا أقامه البزنس في خور الزبير وبدأوا ينتجون ماء ما بطرق صناعية وبمعدل ألف متر مكعب في اليوم، عرفوه لأهل البصرة برمز لم نفك طلاسمه للآن (R.O)، والأمر بحاجة الى خبير في الكلمات المتقاطعة الذي جعل هذان الحرفان يميزان موائد الموسورين في البصرة. وثمة في محطة 'شط العرب' خطط لتأمين المياه الصالحة للشرب ل 17 محطة ستوزع مجانا لأقضية شط العرب والهارثة والجبيلة.
ماء الاميركيين
لا نستبعد أن يأتي يوم نقرأ فيه بأن شركة 'بكتل' الأمريكية ستعمر حتى المراقد في العراق وقد تجلب مؤذنين يتقنون لغات، وقد يؤم احد وكلائها المصلين وربما ينحرون الأضاحي ويزوجون الناس جماعيا، فلغاية اللحظة التي لم نستوعب فيها بعد مشروع الشركة في زراعة النخيل في البصرة وكون 'جوني' صار 'صاعود نخل' و'توني' تحول الى ملقح نخيل و'جورج' حاوي جمار، اصطادت الشركة بالتعاون مع تسمية وقورة هي 'الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية' عقدا بنحو 40 مليون دولار يطورون فيه شبكة المياه الصالحة للشرب في البصرة.
أرقام من تحت الماء
منذ مطلع عام 2004 وقعوا هذا العقد الذي بموجبه ينبغي أن يعيدوا تأهيل 240 كيلومترا من قنوات الضخ ويعالجون المياه في 14 محطة، ويكرون الأحواض ويزيلون المستنقعات فيها ويصلحون السدود ويبنون الحواجز الجديدة ويزيدون من كمية المياه التي كانت تبلغ 17 ألف متر مكعب الى ضعف هذا الرقم ليرووا نحو مليوني إنسان في البصرةِ و أشاروا في العقد بأنه سينتهي العمل به في صيف 2004. في هذه الأثناء لم يكونوا قد نقلوا 'السيادة' بعد الى وزارة الموارد المائية ولم يتأكد من وجود وزيرها عبد اللطيف رشيد أو غرقه بتيار المحاصصة، غير أنه كان مغموما جدا في هذه الأثناء بالعلاقة مع دوائر إعمار العراق، مؤكدا بمناسبة وبدونها، بان هذا المبلغ (الخاص بالعقد المذكور) لا يكفي البصرة وحدها، فالمدينة تحتاج حسب دراسات المختصين في الوزارة الى ما لا يقل عن 150 مليون دولار لإيصال المياه الصالحة للشرب للناس (أي أربعة أضعاف قيمة العقد). ومع ذلك فربع المبلغ أفضل من لا شيء، حسب التقدير العادي للمشكلة، لكن أي تطور أو تصحيح لمياه البصرة لم يلحظه الناس، الذين بقوا مصرين على ضرورة شربنا لماء النبع!
مزاج الهواتف
يحلف بقهر المهندس عبد الزهرة الإمام مدير اتصالات البصرة، ويقسم بأنه ما أن يمدوا 'قابلوات' الأسلاك الهاتفية في النهار، حتى يكتشفوا في الصباح التالي أنها سرقتِ ويطرح السؤال اللينيني الشهير: ما العمل؟ ويشكو بتساؤل: كيف باستطاعتنا تأمين شبكة الأسلاك بين البيوت والبدالات ؟ (لقد سرقت أسلاك هاتف مكتبنا في بغداد 6 مرات خلال عام واحد!). وفوق ذلك يقتحمون 'كابينة الهاتف' ويسرقون توصيلاتها ويبيعون 'التقسيمات' بجوار الكابينة مباشرة بعشرة آلاف دينار للتقسيم الواحد! ومزاج الهواتف ابتكر ظاهرة جديدة في البصرة والعراق عموما وهي أن المواطنون يصلحون خطوطهم بأنفسهم، فرؤية مجموعة من الرجال بمصعد طويل، معلقين عند برج أو عامود، بات مألوفا في أوقات العصر وبعد انتهاء الدوام.
المصعوقون
مات الكثيرون منهم بالصعقة الكهربائية، ودمر مثلهم تنسيق الشبكات، لأنهم يمارسون عملا لا يتقنونه، وظاهرة 'شهداء التلفون' انتشرت، لأن بعض الناس يسرقون أسلاك هواتف الغير ويربطونها على شبكات الكهرباء لكي توصل لهم تيار المولدات أو كهرباء من حي مجاور يقطع بالتزامن من حيهم لكي يضمنوا حصولهمعلى التيار الكهربائي بحصتين، الأولى لحيهم والأخرى للحي المجاور. و'المصعوقون' لا يعلمون على الأغلب بأن أسلاك هواتفهم تحولت في الليل الى أسلاك كهرباء، فينالون في النهاية صعقة الأخطاء الكبرى للمجتمعِ تجاوز المجتمع على الدولة صار طبيعيا ويوميا وبكل التفاصيل الصغيرة، فغاب الزمن الذي كان فيه المواطن يراجع (في مثل هذه الحالات) دائرة الهاتف الخاصة بمنطقته ويستدعي المختصين ليحلوا مشكلته، فهذه الأمور كانت تحل في البصرة، حتى بدون مراجعة وثمة عرف تعودنا عليه اسمه 'هاتف الشكاوى' كانت مكالمة واحدة تكفي لتسجل شكواك وتحل في وقت معقولِ أما أن يحمل كل ذي شكوى سلالمه ويعبث بأسلاك الخلق ويصعق أو يسبب موت غيره، فهذا تدبير لا يستطيع أحد إلقاء اللوم فيه على جهة بذاتها، بل على المجتمع برمته.
حروب الهواتف
وما يتعلق بالجهات الرسمية، فلديها مسجل 80 ألف هاتف فقط في البصرة التي يسكنها مليونا شخص والذين يحتاجون الى أكثر من ثلاثة أضعاف هذه الخطوط كحد أدنىِ ولا تزال ظاهرة 'المسؤول' متفشية كمرض هاتفي أيضا، فالمسؤولون الجدد ورجال الأحزاب تعاملوا مع الهواتف بذاك المزاج الذي حاربوه لدى 'جماعة الزيتوني' في النظام السابق ووضعوا أيديهم على خطوط الغير من المواطنين المساكين الذين 'ليس لديهم ظهر' ، و 'الإكرامية' وهي رشوة صريحة، لعبت دورها في توزيع خطوط الهواتف، فلا يكلف المرء أكثر من 200 ألف دينار لزرع هاتف في بيته حتى لو يجلبونه له من قلب 'الإيزي' وبالوقت الذي يحدده. وتبدأ المشاكل التي تصل الى القتل والتدخل العشائري، ما أن يغتصب مواطن بالرشوة، تلفون آخر، ولا يستطيع أحد حل هذه المنازعات ولا حتى مجلس مصلحة النظام!هكذا يموت الناس من أجل التلفون، صعقا وقتلا وحربا وغيظا، في حروب الهواتف التي عكست واقع مجتمع ودولة، كل منهما يتحمل قدرا لا يستهان به من طنين الموت.
خمائر المستنقعات
لا يوجد أقسى من غزو المستنقعات لأحياء البصرة كلها بلا استثناءِ فهذه المشكلة تخص أيضا المجتمع والدولة، لكن الأخيرة تتحمل القسط الأكبر من الزبالة،فالموضوع تجاوز قمامة الشوارع والأزقة، ليتحول الى مهد مثالي للأمراض والأوبئة التي تنعش فيها حالة الأطباء والصيدلانيين والدفانين، وصفت بصرية هذا الأمر ب'الجريمة' وتكون بذلك قد وجدت المفردة الصحيحة، فهل للمستنقعات التي ترعرعت في البصرة علاقة بحل وزارة الإعلام مثلا أو حل الجيش، فالذي لا يستطيع إيصال مياه صالحة للشرب الى الناس ولا يرفع عن بيوتهم المستنقعات، الأولى به أن يحل عنهم، لأن ذلك ليس 'تقصيرا' في الخدمات، بل قتل يومي وفي كل ثانية للكبار والصغار والهواء، ومذلة صباحية وإهانة مسائية توجه الى شعب مقصر بدوره أيضا، لكن تقصيره نتيجة لكل هذه المصائب التي لم يضع لها الساقطون أي حل، ولم يتداركها اللاحقون لأسباب عاد تكرارها ممللا.
مستنقعات المدن
هي تهديد للصحة والسلامة وأسلحة استخداماتها متعددة ضد أناس لم يتحقق بان جميعهم عابثون وراضون عن ما آلت إليه مناطقهم ومدينتهم التي عرفت الأنوار والألوان والبهرجة والزينة، في مركزها الكبير على الأقل. تجاهل المعنيين قد لا يكون متعمدا، لكنه إهمال في كل الأحوال لا يكسبهم الاحترام ولا الاستحقاق الذيذللوه بالانتظار والحجج، في وقت تكاد فيه المدينة تهوي ضراعة، طافية في دس اليوم بالآخر دسا، متمرغة بلا إرادتها بالوعود والعقود.