الأحد، 9 مارس 2008






حلبجة - موفد القبس الى كردستان د . جمال حسين علي:

لم يكن الضياء تناول اليوم بعد، عندما سار بنا الطريق المجعد عبر أنفاس تلقائية للأديم المتمايل لمرتفعات «عربت» الخضراء المحيلة كل ذرة تراب الى بصمة وهاجة منسوجة ومقفاة. وفي «سراي سبحان آغا» لاحقنا ضباب الفجر السابح فوق الحشائش الطائرة، القصيرة، الخشنة، المنفضة للخلجات والتاركة للضوء النابع توا، ثلمات تنزلق على أحواض الوديان المصفوفة كجدول ينبغي أن ينتهي به المطاف هنا فقط. كان ظهور الصبية المتمنطقين أحزمة الجلد العريضة عبر توجعات المسلك، اشارة لانبثاق اليوم ومؤشرا على قطعنا نصف الطريق الى مدينة الزان والأعشاش الخربة، التي عرفها العالم أجمع في نهار أغبر من منتصف مارس 1988 بحلبجة. كنا على مشارف قصبة «سيد صادق» (مرقد سيد صادق أحد أحفاد الامام الحسين) عندما بدأت ذاكرتنا تستفيق باسترجاع بيانات الحرب العراقية - الايرانية، والعبارة المعادة مرات ومرات: «قصف العدو الايراني بالمدفعية الثقيلة قصبة سيد صادق وأسفر القصف عن....»
الأرض المزروعة بالجنود
كانت هذه العبارة ملازمة لمؤلفي البيانات العراقية، ليس لشيء في أنفسهم على الأرجح، بل لأن مأوى مرقد حفيد الحسين كان يقصف يوميا تقريبا. واسأل: - ماذا كانوا يقصفون هنا، لا أرى سوى هذه الأكواخ ورعاة المواشي؟ ويجيب أحد العارفين: - كانت هذه الأرض مزروعة بالجيش العراقي.. لا تجد مائة متر خالية منهم. وكل «الخلفي» كان هنا. «الخلفي»، مقصود به مقرات القيادات الميدانية للجيش التي تقع دائما خلف القوات المتقدمة والسواتر والحجابات. يعطي هذا التوقف الفهم بان«حلبجة» التي مازالت غير مرئية عدت من حجابات الجبهة، وبمعنى واضح الخط الأمامي للحرب. ويفصلها عن «سيد صادق» ناحية سيروان الشهيرة بموطن العشيرة التي تحمل الاسم نفسه وذات الجمال المنفرد وطيبة أهلها الأخاذة. شهدت هذه المنطقة أقسى الظروف وأشد المعارك، فهي بذاتها قاسية وعصية ومستحكمة والذي يؤمن لنفسه موطنا هنا من الصعب جدا ازاحته، وللسبب هذا كانت مرتفعات«سورين» التي تفصل العراق - حلبجة عن ايران الحصن الرئيسي للثوار الكرد على مر السنين والمأوى الذي يلتجئون اليه كلما شنت عليهم القوات الحكومية واحدة من الهجمات الدورية. لذلك كان النظامان العراقي والايراني ينظران الى حلبجة من وجهة نظر الجسر الفاصل بين كردستان ايران وكردستان العراق ومن يسيطر عليها يلجم الاثنين.
المتمنطقة بالسفح
أما حلبجة فتجلس على سفح جبل شنروى الغربي والواقف في أطراف جنوبها الغربي يرى سهل شارزوور. وهي جارة مسالمة لأكثر مناطق كردستان العراق جمالا «هورمان». وقبل أن تسلك واحدا من طريقين اليها، لابد أن يثيرك ارتفاع سلسلة جبال «أحمد آوى» الحد الفاصل بينها وايران، الذي ما ان وقفت على قمته يمكنك رؤية آخر صور لحياة الحركة التي بدأت تشغل الأنباء: أنصار الاسلام.
الطـريق الآمن
فضل السائق الدخول الى حلبجة من خلال الطريق الترابي وليس بواسطة الطريق الأصلي المبلط. وعرفنا أن هذا الطريق يسمى باللهجة المحلية: الطريق العسكري. وهو أكثر أمنا (بشكل آلي يكون الطريق الآخر غير آمن بفضل اختراقات من وقت لآخر لمسلحي أنصار الاسلام). فقد شقته تشكيلات الاتحاد الوطني المسلحة بعد اعادتها السيطرة على حلبجة من الاسلاميين قبل سنتين والذين سيطروا على المدينة منذ الانتفاضة 1991 ولغاية 10 سنوات تقريبا. تنتشر ربايا الاتحاد الوطني ومراكز الرصد على جانبي الطريق العسكري وبشكل مكثف تقريبا ولا يكاد كيلومتر يخلو منهم. لم يتعرضوا لنا وكانت اشارات السائق لتحيتهم كافية لمرورنا السلس، حيث اكتسبوا بالخبرة حسا يجعلهم يميزون المفاجآت غير المحببة.
دمار وبناء
متمم الصورة، كانت عملية البناء التي يمارسها الناس بأيديهم في القرى المحيطة بالمدينة كاشارة الى الاطمئنان بالآتي وظهر الصورة ذاتها كانت مناظر القرى التي محتها بلدوزرات الجيش العراقي من الوجود. ويأتي الجواب بدون أن نطرح السؤال: - كل هذه الأراضي كانت قرى للمزارعين والرعاة. يعيدون الآن بناءها. - في المكان نفسه؟ - تصور.. كل شخص أعاد بناء بيته في الأمتار السابقة نفسها التي كان يعيش فيها. هؤلاء يشمون التراب ويعرف كل منهم أرض بيته بدون مساحين ومهندسين وتخطيط. - وهذا البيت المهدم؟ أشرت الى بيت مهدم، من الواضح أنه كان يضج بالصبية والفتيات والروح والحركة. ومن أعمدته الواثبة حتى الآن يوحي بأن أهله كانوا ميسورين قياسا للدور الأخرى، لذلك أثارت وقفته المتهالكة السؤال. - لا أعتقد بأن أحدا سيعيد بناءه! - لماذا؟ - لأن كل ساكنيه ماتوا في القصف الكيميائي.
الوجع الحاضر
لم أشأ الاستعجال بفتح «القضية الكيميائية»، لكن شئت أم أبيت تجدها حاضرة في أي حديث ونداء مهما حاولت التأجيل، مبثوثة كالبيوت المتباعدة ظاهريا والملتصقة بحمية ووداعة، صلدة رغم ارتطام الريح المهجورة بها معطية إياها شكلا رماديا تتجرع العين كثيرا كي تبصره. حاملين غبار الطريق الترابي «الآمن»، تدحرجت سيارتنا التي اختفى صوت محركها لانشغالنا بالتخمين في أول أمتار الطريق المحلي المبلط والذي أدخلنا الى المدينة. أول ما استقبلنا في حلبجة نصب للرجل الذي ذاع صيته ونشرت صورته في كل مكان «كاكه عمر» محتضنا ابنه الوحيد الذي جاء بعد 9 بنات. ويكفي هذا الرقم لمعرفة معزة الولد لدى الشيخ عمر الذي لم ينفعه الاحتضان وتقاسم الكيميائي مع ولده وكانا أكثر الغائبين الذين أثاروا هلع الانسانية. ولعلها ظروف لم يفكر بها مخططو المدينة، وضع مقر واحد من الأحزاب الاسلامية التي تعج بها المنطقة مقابل النصب. كان مقاتلو الحزب يرتدون على عكس الآخرين بزات سوداء كليا. عندما هممت بتصويرهم، حذرني السائق بقوله انهم شرسون جدا. مع ذلك لم أتوان وأوقفته بحيث يكونون خلفه وقلت له لا أعتقد بأنهم يمانعون من التقاط صورة لك. تاليا، تجاوزت العدسة صاحبي بعد أن اخترقه الزوم المصوب عليهم وعملت الكاميرا عملها بدون تجاوز لصلاحياتهم الأمنية.
صواريخ سوفيتية
من الشواهد على المذبحة، ينتصب صاروخ سوفيتي أطلقته القوات العراقية على المدينة ولم ينفجر. قالوا لي: مكتوب عليه بالروسية اقرأ لنا. أجبتهم بأن لا شيء على الاطلاق غير حروف روسية كبيرة وأرقام. هذا مجرد كود يعرفه المختصون فقط لتمييز عيار السلاح ونوعه عادة وهو ليس مسجل أو راديو حتى يكتبوا عليه شرحا ما أو بلد المنشأ. تنكر السلطات العراقية حتى الآن ارتكابها مجزرة حلبجة وصاروخها بما فيه تحول الى ملتقى طرق في المدينة.
الوحيدة دوما
لعل حلبجة المدينة الوحيدة في التاريخ التي تعرضت لقصف بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية والغازات السامة لمدة ثلاثة أيام متواصلة. وهي الوحيدة التي أبيد كل من كان فيها ولم ينج حتى الهاربون منها. وهي وحيدة في قضايا أخرى منها أن كل العالم تخلى عنها أوقات سطوة النظام، وحرمت وكالات معروفة بحريتها الحديث عنها. هي الوحيدة التي تناقل ملفها عتاة السياسة وأخفاه محنكون الدوائر الخاصة. والأقسى من كل ذلك، أنها الوحيدة التي بقيت وحيدة! وفوق ذلك نهشت ما تبقى من جسدها كل القوى الاقليمية والداخلية وتحولت الى مسرح للمضاربات وبهو لابراز العضلات. حمّلها القساة أكثر مما تتحمله قارة بأكملها من دسائس، في وقت لم يطالب أهلها بشيء غير بيت آمن من طين أو حجارة مختصمة.
ولا أضعف الايمان
تباكوا عليها وقت الضرورة فحسب، عندما كان أحياؤها يحفرون بسكاكين أظافرهم اصفرار الحياة المداهنة. وبصمت وهدوء حلت عليها بركة لجنة سويدية ترعى الانسان اسمها لابد من ذكره اجلالا لهؤلاء البشر الذين تذكرونا عندما نسينا أنفسنا: َQANDIL SIDI ، نكتبها بالانكليزية، فلا يستحق الأمر الترجمة، طالما لم ينفع سقوط 5 آلاف ضحية لترجمة الأحاسيس ووعي الضمائر واستفاقة المواجع. ويكاد مبنى السويديين مثلهم، الأنظف والأكثر تنظيما وانسانية في المدينة المبقعة بالدمار الشامل. لم يختاروه كمنظمة تعمل بمليون غطاء عدا مهمتها الرئيسية، بل أرادوه أن يكون: مستشفى حلبجة. فقط ليزيل بعضا من أورام الناس التي خلفها كيميائي الأشقاء. لم يبنوا المستشفى ليتركوه على عواهنه، بل يديرونه بأموالهم وأجهزتهم وأدويتهم ويزورونه شهريا لمراقبة أوضاعه. ليس غيرهم هؤلاء «النصارى» من راعى أهالي حلبجة المخيرين بالموت البطيء. المتميزين من بين كل مدن العراق بأن المسلمين فيها يشكلون 100 % من سكانها المعروفين بالتقوى والاحسان، ناهيك عن الطيبة المتأصلة. هم من العشائر المسلمة المعروفة بتمسكها بالدين لذلك كانت قلاع الاسلاميين ومهد أفكارهم. وتميزهم مظاهر حضارية ملموسة لكونهم مدينة حدودية ومعبرا للرائحين والعائدين.
كلهم كيميائيون
و«المستشفى السويدي» يحتضن كل الحكايات المروعة بشواهدها الحية والمطمورة في السجلات الباهتة. يستقبلنا مدير المستشفى الدكتور تحسين علي فرج بكل نخوة وود بالقول: - كل الذين يعملون في المستشفى تعرضوا للقصف الكيميائي. لاحظت بأنه لا يتكلم العربية وربما لأنه شاب وكبر عندما اختفت سياسة التعريب عن المنطقة ولكني سألته مازحا: - هل أنساك الكيميائي اللغة العربية؟ - كلا، لكني ضعيف بالعربية ولا أتكلم مع أحد بها. - هل ما زلت تعاني من آثار الكيميائي؟ - أفضل بكثير من السابق وتكاد تختفي. مازحه أحد الجالسين: - هو طبيب ويعرف كيف يعالج نفسه؟ - لا.. مع بداية الضربة هربنا جميعا من المدينة واصابتنا كانت أولية. سألته: قلت إن جميع العاملين في المستشفى تعرضوا للاصابة. - نعم . حتى الشرطي الواقف عند البوابة.
كيميائي كالتفاح
طلب حضور الشرطي الذي حدثنا عن الدقائق الأولى وكشف آثار الضربة التي ما زال يعاني منها. قال إنهم هربوا من سيروان الى حلبجة لأن القصف تركز في البداية على هذه الناحية. ولكنهم ما أن وصلوا الى حلبجة، حتى كانت النار الملونة، حسب وصفه لها، تحيطهم من كل الجهات وبدأوا يشمون رائحة طيبة كالتفاح. بعد أن دمعت عيونهم والمخاط يتدفق من أنوفهم عرفوا بأن السلاح الكيميائي استخدم. هربوا الى جبال أحمد آوى مشيا، لكن الطائرات لاحقتهم بقصف يصفه بأنه كالرذاذ. وأي شخص وقع عليه الرذاذ يبدأ جسده يفقع بما عرف فيما بعد بداء الذئب الأحمر الذي لا يمكن علاجه. وحتى علاجه له آثار جانبية بشعة. بعد سماعنا هذه الحكاية أردنا التخفيف عنه بالقول: أنك الآن تعمل في المستشفى وأقرب الناس إلى العلاج. أجاب: بالفعل، أنا اخترت هذا المكان لأني أتلقى علاجا يوميا. استمر في رواية المجزرة: رأيت بعيني كيف كان الناس يتعثرون بالجثث المنتشرة في الطرقات. في مكان واحد ثمة أكثر من 300 جثة لناس أعرفهم. لا يمكنني نسيان مناظر الأطفال وهم يموتون أمامي. وحتى الكثير من أفراد الجيش العراقي قتلوا بالقصف الكيميائي. سألته: أي الوسائل استخدمها الجيش للقصف؟ قال: كلها، طائرات الميغ والسمتيات والمدفعية. - أي الوحدات قامت بالقصف؟ - الفرقة 27 والفرقة 42. قائد الجيش العراقي أسره الايرانيون وقتذاك بعدما أرسلوا عليه سرب مروحيات عسكرية وهو عندهم حتى الآن كمنفذ للضربة الكيميائية. - هل عاد الايرانيون الى حلبجة بعد الضربة الكيميائية؟ - نعم دخلوها. وكذلك البيشمرغه. - لماذا؟ - لمساعدة المتضررين بالقصف. - وكم بقوا؟ - حوالي أربعة أشهر .
الأمراض السائدة
عدنا الى الطبيب: ما الأمراض السائدة التي خلفها الهجوم الكيميائي والتي ما زلتم تعالجون الناس منها؟ - نحن لا نختص فقط بمعالجة المصابين بالضربة. فهذا مستشفى عام نستقبل فيه يوميا نحو 200 مرض منهم حوالي 40 ضحايا الكيميائي. - نسبة الخمس ليست قليلة. مم يعانون؟ - كثير من الأمراض ويكاد لكل شخص سجله الممتلئ بها. لكن أكثرها شيوعا التهاب القصبات المزمن، الالتهابات الجلدية، الحساسية، السرطان، اللوكيميا، سرطان الدم، ضعف البصر وأمراض العيون المختلفة، التشوهات الخلقية خاصة عند الأطفال حديثي الولادة، العقم، الاجهاض وغيرها. - وهل لديكم كادر طبي يمكنه التعامل مع هذه الحالات المختلفة. - لا بالطبع. لكننا اكتسبنا خبرة لا بأس بها. - كم تقدر ضحايا الضربة من الأحياء؟ - حوالي من 49 - 50 ألفا في حلبجة و27 ألفا في القرى المحيطة بها. - وهل تستطيعون علاج هذا العدد الكبير؟ - لا توجد لدينا امكانات لعلاجهم. نرسلهم إلى السوق لشراء الأدوية. - العلاج ليس أدوية فحسب. بداية في أجهزة التشخيص ولغاية مراحل العلاج المختلفة. - أصعب من أي شيء هو افتقارنا إلى أجهزة التشخيص. - هل تشخصون الأمراض وتبنون على أساسها العلاج وتقترحون الأدوية بناء على الخبرة التي ذكرتها؟ - قلت أن المسألة صعبة للغاية. تزورنا بعض المنظمات بالتنسيق مع السويدية «قنديل» أحيانا وتجلب معها بعض التجهيزات. ولكن لم يجلب لنا أحد الأجهزة الخاصة. - وحتى لو جلبوها، يحتاج تشغيلها كادرا متقدما ومتدربا ولا أعتقد لديكم امكانات لتوفير هذا الكادر. - مع هذا، المنظمات الدولية مقصرة معنا في مسألة الأجهزة الطبية والأدوية. كل المدن في كردستان تعاني هذه المشكلة. ولكننا حالة خاصة، لأننا نعاني آثارا مزمنة أكثر من الآخرين. وهناك البيشمرغه الذين كثروا في المدينة بعد القتال وهؤلاء ليسوا من أهالي حلبجة، ومحسوبون على الناس ويحتاجون الى أدوية وعلاج. لذلك أثروا في استهلاك الأدوية.
محسنون آخرون
تجدر الاشارة الى أنه عدا «قنديل» السويدية، ساعد المدينة من الناحية الصحية أيضا المعهد الكردي الأميركي في واشنطن بتبرعه لهم بأربع سيارات اسعاف وبدالة وفتح معهد واشنطن لبحوث آثار الضربات الكيميائية فرعا في المدينة. لكن هذا القسم غير متخصص بعلاج الناس والوصول اليهم، قدر تعلق عمله بدراسة الآثار الكيميائية على البشر والبيئة. وثمة جمعية أنشأها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ترعى ضحايا القصف الكيميائي.
زمن المتاريس
لم ينس الناس بعد آثار الهجوم الكيميائي حتى حلت بهم آثار «التعددية». وبناء على ظروف «التوازن» لا يمكن تجاهل المسلحين في كل زاوية. دورياتهم مستمرة، بل وعلى مدار الساعة تحسبا لطارئ تعيشه المدينة منذ انتفاضتها مع باقي مدن البلاد عام 1991 وخروجها عن السيطرة التقليدية للاتحاد الوطني الكردستاني طوال العقد الماضي واسترجاعها قبل سنتين. هذا الهاجس جعلها مدينة متاريس وأحزاب، أعلام ومآذن. وفي أي تعرج أو التفاتة، تذكرك البيوت المدمرة بما حل فيها ولا ينفع التساؤل المبرح: دمار أي حرب هذا؟ لأن المهم الدمار وليس التوثيق في هذه الحالة. فلكها معلوم: الحيرة فيما قد يقع! هذا الذي يطوق أمنها أكثر من المسلحين. عدم استنشاقها أبهة الاستقرار ومرح البساطة. كأنها مفتوحة على مصراعيها لمن يريد تجربة أفكاره «السامية» على الأرض. كلهم تواثبوا على حقول جسدها كذئاب ليل شموا عطر دم استوحش الروح. ولم يسلم ملمتر منها من أظلاف هذا أو ذاك من عابرين فاضت ألسنتهم بنداءات الغد الأخير للخلاص.
استنساخ
منازلها وسقوفها وجدرانها تحمل على التذكر بأن أحشاءها مكتملة ما ان يفصح اخصابها عن بذرته. ومع محافظة أهلها وعشائريتهم، الا أنه حتى زائر عابر لا يمكنه تخطي ولوجها بالمعاصرة كفرح في البيت. تهادنت مع المهربين الذين أحيوا ساعاتها وملأوا محلاتها بما تحبه الحواس الخمس. وأكثر انجاز قاموا به أنهم استنسخوا كل ما هو موجود من سلع استهلاكية ووضعوه متناول يد الناس. لا يمكن أن تعثر على أي سلعة تعرفها أصلية. ويبدو أن المهربين في هذا الجزء من العالم سبقوا علماء الاستنساخ بأزمان. وكحال باقي المدن والقصبات الكردستانية، ترتبط بالعالم بجميع أجهزة الاتصال الفضائية والخدمات الالكترونية مدارية بذلك بعض الوحشة التي خلفتها فوهة الحريق .
وداعا أيها الألق
كجزء استل من رحم ذبيحة، يبدو المظهر من فوق جبال أحمد آوى. هناك، أسفل بكثير من مستوى سطح الحرية، يتناثر عالم آخر يصيغ المشاحنات المنتظرة: مواقع أنصار الاسلام. أول انطباع تتركه رؤيتهم بأن حربا أهلية على وشك الوقوع. يمتطون أقدامهم، خمسة في كل قافلة مدججة بما يقدر على حمله انسان من سلاح وحديد. تجسم واثق، كأنهم يحملون الصورة نفسها لمن يريد الموت الآن وليس غدا. ويجيء صوت بلهجة تجمع الرجاء والأمر: يكفي! نزولنا طليق كصعودنا الى أحمد آوى.. اسم على لا مسمى، من كان يجرؤ على اقتراح مثل هذه المفارقة؟
استرجاع لتكملة العزاء
كتب الكثير عما حل في حلبجة. لكن استرجاع شهادة القائد الميداني الكردي شوكت الحاج مشير تكتسب أهميتها لأنه كان قائد الجبهة الكردية وقتذاك. يقول إنهم في ليلة 14 / 15 مارس 1988 بدأت المرحلة الأولى من هجوم القوات الكردية التي شكلت لها محورا من عدة أحزاب، على قوات الفيلق الأول العراقي الذي كان يسيطر على المنطقة. استمر القتال حتى الساعة الرابعة من عصر 15 مارس حيث تمكنت قوات الجبهة الكردية من دخول مدينة حلبجة والسيطرة عليها وعلى ضواحيها وأسرت الكثير من العسكريين العراقيين وغنمت كميات كبيرة من السلاح والعتاد بما في ذلك الدبابات والمدافع الثقيلة. ولمعرفة الناس المسبقة باجراءات النظام العراقي الانتقامية في مثل هذه الأحوال، شرع قسم منهم بالهرب نحو مناطق هاورا وتاويره وبياره وطويلة وشميران وغيرها من المناطق المحاذية للحدود مع ايران وانتظروا حتى يحل ظلام ليلة 16 مارس لينفذوا الهروب الجماعي. غير أن انتشار القوات العراقية في كل مكان وبرودة الجو وعدم تقدير المخاطر والقصف المكثف بواسطة الراجمات والمدفعية أدى الى تعثر عملية هروب العائلات الكردية من حلبجة في هذه الليلة التي سبقت المأساة. وفي صباح 16 مارس اجتمع القادة الكرد مع ممثل الايرانيين علي رضا وممثل الحركة الاسلامية الكردية علي عبد العزيز في مقر قائمقامية حلبجة. وخلال الاجتماع أمطرت حلبجة بالقنابل والنابالم من 7 طائرات عراقية، الأمر الذي أدى الى انفضاضه. وأصبح واضحا بعد هذا القصف ماذا يخبئ النظام العراقي من نوايا تجاه المدينة على الرغم من أن القصف الأول التحذيري لم يكن كيميائيا. لكن القصف وتواجد الطائرات العراقية المستمر في الأجواء واغلاق الطرق المفضية الى خارج المدينة لعبت دورها في منع خروج الناس من حلبجة بالاضافة الى الأسباب المذكورة أعلاه.
مساعدات ايرانية
في هذه الأثناء كانت حرب المدافع والطائرات مستمرة وبلا انقطاع بين القوات العراقية والايرانية وكانت ايران توطد مواقعها على سفوح شارزوور ودفع قوات وتعزيزات اضافية اليها، لعلمها أن من يسيطر على هذه السفوح تقع حلبجة بين يديه. وساعدت سيطرة الايرانيين على المنطقة على دفعهم الكثير من سيارات الاسعاف والمروحيات والفرق الطبية التي عالجت وأخلت الجرحى المدنيين في المدينة وقرى شيخان وبياره وطويلة ومزيار ونورئلي وأحمد آوى وخورمال وغيرها. وقامت قوات من حرس الثورة الايراني بنشر مواد غازية تفتت الغاز الكيميائي وتمنع من تأثيره وساعدت العملية هذه على احتواء جزء من الهجوم الكيميائي.
فتوى الخميني
في اليوم الثالث من المجزرة كانت المشكلة مع ازدياد عدد الجثث وصعوبة دفنها وكذلك الدفاع عن المنطقة. بالنسبة للمشكلة الثانية صدرت الأوامر من القيادة الكردية بأن شأن الدفاع عن المنطقة أوكل للايرانيين أما الحل للمشكلة الأولى فقد جاء بفتوى من الامام الخميني بعد اصداره فتوى اعتبرت جميع قتلى القصف الكيميائي شهداء وليسوا بحاجة الى الغسل والكفن ويجوز دفنهم جميعا بملابسهم. وهكذا بدأت عملية تجميع الجثث بكل الوسائط الموجودة بدون تمييز بين ذكر وأنثى وحفرت قبور جماعية يتسع كل منها لنحو 300 شخص لدفن آلاف الضحايا الذين قدروا بأكثر من 5 آلاف شخص.
الكيميائي الأول
لم يمهل النظام العراقي الناس حتى الليل لكي يهربوا من المدينة، حيث بدأ قصفها بالأسلحة الكيميائية لأول مرة في الساعة 15.5 عصر يوم 16 مارس. كانت الضربة الكيميائية بصواريخ أخرى وتختلف عما تعود عليه الناس حتى من ناحية الصوت الذي كان يخلف دخانا أبيض يرتفع ثم يعود ليطبق على المدينة. بدأ الهروب الجماعي تحت القصف نحو قرى عبابيلي وعنب وباموك وبتموك وباوة وكوضوك وجليلة وغيرها. وازدحمت الطرق الموحلة بالناس المندفعين بسعالهم ونواحهم ويتقيأون ويحتضرون وأكثر المناظر قسوة عندما يسقط أحد أفراد العائلة ميتا أثناء الهروب يتبعه الآخر والآخر: يجلس يبكي على قريبه، ثم يموت بحضنه ببطء. تموت الأم ويعانقها ابنها الصغير ظنا منه بأنها نائمة حتى يرحل معها و هكذا تكومت جثث البشر والحيوانات بعضها فوق البعض الآخر. وفوق ذلك لم تنقطع الطائرات والسمتيات والمدفعية عن القصف طوال النهار والليل على كل من حلبجة وسيروان وخورمال وكذلك القرى والطرق الحدودية حيث قتلت عددا كبيرا من الفارين على طريق عنب وأحمد آوى وعبابيلي.
حوادث استثنائية
حادثة استثنائية أخرى يرويها المنقذون عن امرأة بقيت على قيد الحياة في سرداب فيه 60 شخصا ماتوا جميعا وكانت تصرخ: كلهم أهلي وأقاربي. وأنقذتها فقط بطانية بللتها بالماء. وظاهرة أخرى ربما تكون طريفة في هذا الحديث الموجع لم يجد العلماء لها تفسيرا وهي أن كل العجائز بقين على قيد الحياة بالرغم من تعرضهن للغاز كالآخرين وموت كل الرجال والشباب والمواشي قربهن وخاصة عجائز هورمان! كان الجرحى يتجمعون في المساجد لأن فيها ماء ولأنها تتسع للكثيرين وكلما يموت أحدهم يقوم الجرحى فوق جراحهم ليدفنوه في باحة الجامع. نختتم الروايات الحزينة بواحدة تعد من أجمل قصص الحب في التاريخ المعاصر: نفدت الابر المضادة للغاز لكثرة الجرحى وبقيت لدى مجموعة من المنقذين ابرة واحدة وفي هذا الوقت وجدا شابا وشابة مطروحين على الأرض وقد ألصقا رأسيهما ببعض وكانا عروسين زفا قبل القصف بيوم واحد. احتار المنقذون لأيهما يزرق الابرة حتى سمع صوت العروس تطلب منه أن يزرقها لزوجها لأنه، حسب تقديرها، في حال أسوأ منها. لبى المنقذون رغبتها وبعد دقائق كان العروسان يبتعدان عن المدينة وقد أحياهما الحب من جديد.