السبت، 8 مارس 2008

كواسج التهريب الشامل





في تتبع لعبة القرش والدلفين و الإخطبوط

" باحثا عن النوافذ - ولكن - من الأفضل ألا أجدها،
فربما كان النور عذابا جديدا "
- كافافيس -

البصرة - د.جمال حسين علي:

ما ان قضمت الحروب أظافر البلاد، وأتت عليها بضراوة فوضى الانهيار الأولى، وسلمتها الى الغموض والظلام، انبعثت فيها طفيليات العتمة نابشة كل شبر فيها لكي تكنسه سرقة وحرقا وتفكيكا ومن ثم تهريبا.. وحكايات التهريب ليست جديدة على المدن الحدودية كالبصرة، لكنها كانت بحدود الناس والخراف وقنانيالمشروبات والسجائر وعدد من الساعات اليدوية وبعض الجمالِ وان ترى مرة خير من أن تسمع ألف مرةِ وما صقلته الأمواج وتتبعته العدسة وتباين في إدراكه الفهم، أكبر بكثير مما كنا نسمع، لشدة تعقيده من جهة وللتنظيم الكبير الذي تمارسه مجموعات هائلة العدد، جاثمة على صدر المدينة، ممتلئة مالا وسلاحا ومفرطةالقوة والمكر ونباهة المهربين المحترفين.. ولن يستطيع تقرير واحد ولا حتى استطلاع فضائي التقرب من كل العمليات الكبرى منها والتافهة والتي تطحنرحاها نوافذ البصرة العديدة للغاية.. لكن الاستنتاج الأخير الذي يمكن تثبيته قبل استدراج الحدث، أن الصلف بلغ أوجه والخسارة في كل جوانب معانيها، فادحة، والترنم بطائر الديموقراطية، في بلد يفككه أهله فجرا ليبيعه مساء، تغريد بلا زهو ولا في محله، ما ان تمخر مئات السفن تاركة الضفاف بحسرة العراق - الخواءِالنظام السابق عندما كان محاصرا، كان يسير أموره بالتهريب، فبنى طوال شط العرب، بدءا من العقل ومرورا بأبي الخصيب وأبو الفلوس والسيبة لغاية الفاو، الكثير من مرافئ التهريب.. وبعد سقوطه، ابتكرت شركات مسجلة وأخرى وهمية وعصابات وعشائر ومتخفون بواجهات أحزاب وحتى صحف، الكثير من الطرق لتوسيع 'بيزنس' التصدير غير الشرعي للنفط والأغنام والأسلاك النحاسية وغيرها من المنشآت وخطوطها الإنتاجية بالكامل وحتى سكرابها.بدأت العملية بتنظيم تحسدهم الدولة عليه، حتى وصلت الموانئ غير الشرعية على شط العرب وحده نحو 80 ميناء، وصفها مدير عام نفط الجنوب عبد الجبار علي بأنها 'كارثة'.
بورصة التهريب
للجماعة بورصة خاصة بهم يقرون فيها أسعار النفط الذي يسرقونه من الحكومة والذي تقوم المؤسسات الرسمية بتزويد المحطات ودوائر الدولة به وكذلك السعر الذي يبيعونه الى مهربي الخارجِ والبورصة ليست مبنى لكي يزوره احد، بل جلسات مطاعم فاخرة وعزائم في قصورهم ودواوين عشائرهم أو مقراتأحزابهمِ ويمكن القول إن هؤلاء أصبحوا 'مافيا' بحق، ولا تستطيع حتى قوة عظمى كبريطانيا التغلب عليهم، حيث يطارد جنودها المنفذون الصغار، تتبعنا على طريق الفاو سيارة 'جي أم سي' رفع المهربون الصغار كراسيها وبنوا داخلها حوضا يتسع لنحو 200 الى 300 لترا وقد ألقى البريطانيون القبض عليها وساقوها الى مكان ما في الفاو.هذه الجيبات القديمة للغاية يتم استيرادها من الكويت ببلاش تقريبا لأنها سكراب، وفي البصرة يحورونها في المنطقة الصناعية لتصبح 'ميني تنكر' ينقل البنزين والوقود من هنا الى هناك.. بمعنى أن القوات في البصرة والمختصين، يقدرون على هؤلاء الصغار الذين يتعاملون باللترات، فكيف الحال مع 80 ميناء غير شرعي ترسو على جوانبه مئات السفن و'اللنجات' و'الدوب' والبواخر المتوسطة؟
أوبك الثانية
عرفت المساحات المائية المنتشرة من ميناء أبي الفلوس حتى الفاو حسب التسمية الشعبية بمنطقة الأوبك!هناك تتم كل العمليات على مرأى أو بتغاض من قوات 'الدفاع الساحلي' او دوريات الجمارك. ولموانئ المافيا (لا نستبعد أن تكون دولية) أفراد حماية مسلحون لهم ضوابطهم في منع الاقتراب والتصوير وربما لديهم تراخيص بحمل الأسلحة بعد أن أجاز بول بول بريمر الحاكم الاميركي السابق في عهده إنشاء مؤسسات الحماية الخاصة على النمط الأميركي، دون دراية بالواقع العراقي طبعا. نكرر بأن هذا شغل مافيا وليس شيئا آخر، فالذي لديه قوات مسلحة بزي مدني ويخوت وبواخر ومطاعم وقصور ويهرب في وضح النهار وأناء الليل، يسمونه مافيا!
لا صلاحيات
المجالس البلدية في المنطقة يديرها فقراء مسحوقون، لا يكلف المافيا أي شيء لشراء سكوتهمِ وفوق ذلك ينكرون بشدة وجود تهريب في مناطقهمِ وقال قائلهم، حتى لو يحصل هذا الأمر 'فليس من صلاحيتنا نحن ان نكتب للجهات العليا ما نرى ولا نكتب للدولة عن إشاعات'!
هذه الجمل تعني أن أصحاب الحل والربط في المنطقة لا يريدون لا حلها ولا ربطهاِ وكذا الحال بالنسبة للشرطة الذين أشغلتهم جدا كاميرتنا وصورنا وكأننا نهدد الأمن القومي بالتصوير، وكانوا يجيبون على السؤال الخاص بالتهريب بالسؤال عنا وما الذي نفعله واستمرت المطاردة الكلامية هكذا نسأل ويسألوننا، وفي النتيجة تبين أن الجماعة ليس من اختصاصهم مطاردة المهربين إن وجدوا وهذه من صلاحيات الشرطة النهرية وليس 'الأرضية'!
عمولات كبيرة
قوى الأمن الحديثة شكلت على عجالة ووفق اجتهادات معروفة، وكان الملتحقون الجدد يصبحون ضباطا في غضون دورات تدريب سريعة لستة أسابيع، لا يمكن أن يعد فيها جندي أ وشرطيِ طريقة الإعداد وعامل الوقت والسرعة وسوء التخطيط وعدم وجود آلية للاختيار، سمحت لكثير من 'أرباب السوابق ' والمستعدين لذلك، بالدخول في سلك قوى الأمن المختلفة.ولم تكن مفاجأة، تأكيد العديد ممن حاورناهم بشأن قضايا التهريب، على أن تسهيلات وتواطؤا واضحا من الموظفين ورجال الأمن تقدم الى منفذي عمليات التهريب، لقاء عمولات تتناسب مع الشحنة، بمعنى أن بعض حماة القانون يحصلون على نسبة معينة مقابل تمريرهم كل عملية، فالباخرة الصغيرة التي نعرضها لكم، ترسو بشكل مباشر في كورنيش العشار، مقابل فندق الشيراتون المحروق،وليس في عرض البحرِ وتتزود بالنفط المهرب يوميا، لكي تسوقه الى الضفة الأخرى التي أصبحت إيرانية بفعل معاهدة تقسيم شط العرب المعروفة باسم عام 1975 تحمل هذه الباخرة 120 - 150 طنا وإذا تقوم بعملية تفريغ واحدة في الضفة الإيرانية يوميا، فيمكن تصور كميات النفط المهرب شهريا لو علمنا بأن عشرات من مثيلاتها تقوم بالدور نفسه.
المصادر
وهي متعددة، فالنفط الأبيض يباع رسميا في السوق المحلية بسعر لا يتجاوز 10 آلاف دينار للطن الواحد، بينما يرتفع سعره في بورصة التهريب الى نصف مليون دينارِ الفارق المهول بين سعر الدولة وسعر المهربين يسقط نزاهة الكثير من الموظفين، في وقت انحسرت فيه ضفاف الضمير والعفة عند الناس الذين ذاقوا الأمرين في زمن الحصار.شركة نفط الجنوب التي اعتبر مديرها التهريب 'كارثة' بكل المقاييس، مهمتها استخراج النفط، حسب أقواله، وليس تسويقه. هذا الكلام يعلق المشكلة، فشركات ليس وراءها طائل، تسوق النفط عمليا، أو تهربه حقوقيا، في آن واحد لا يمكن لشركة عريقة كنفط الجنوب، المشكلة بعد إزاحة الشركة العملاقة بعد التأميم 1972 (شركة نفط البصرة) ألا تدري أين تسوق منتجاتها.هو ذر النفط في الآذان والمال في العيون لكي تعمى، فلو مر النفط من نقطة للتفتيش، لماذا يمر على الثانية وكيف يعبر الثالثة وما عذر القوات البحرية البريطانية التي يدور رحى التهريب أمامها وهي المالكة للقوة والتكنولوجيا العسكرية والفنية الكافية؟!إذن، هناك أوراق رسمية وموافقات أصولية يحملها هؤلاء تمكنهم من المرور بالشحنة طوال هذه العقبات، ولعلها كلمة سر اتفقت عليها كافة الأطراف المربوطة بالخيط الرفيع نفسه.
تهريب المستورد
ولم يكتف سلاطين 'أوبك' البصرية بسرقة وتهريب النفط المحلي فحسب، بل وضعوا أيديهم على النفط المكرر القادم من الكويت وأحيانا من السعودية.ويصعب على هذا التحقيق إثبات كميات 'النفط الكويتي المهرب' الذي يقدم الى العراق بشكل مساعدات أحيانا وأحيانا أكثر بناء على عقود مع شركات معروفة بفضائحها.وفي ظل ظروف التحقيق المتعبة، يكون من المستحيل حساب 'التسريب' في الوقود المخصص للقوات المتعددة الجنسية الذي يجد طريقه الى قنوات التهريب. وإن كان الأمر مجرد تكهنات وشكوك في أسوأ الأحوال، فان التقصير الكبير والمؤذي لهذه القوات، لا يجادل ولا تشوبه الشكوك.
الميناء القديم
لم يخطئ من أسماه 'أبو الفلوس'، فهذا الميناء المتداعي للغاية الذي نسيه الناس طوال نصف القرن الماضي، عاد في منتصف التسعينات الى سابق مجده، بعد أن شجعت الدولة على التهريب، بل ومارسته عمليا. وأصبح منذ ذلك الحين 'أبو الفلوس' حقا، بعد أن دمره الحلفاء في الحرب الأخيرة، أعاد بناءه المستفيدون الجدد، الذين نعتقد بأنهم 'مافيا النفط '، بالرغم من أنهم يظهرون كمحسنين الآن وكذلك 'شيوخ عشائر' تتصدر أسماؤهم القوائم الانتخابية التي اختارها الشعب!ولم يقدم البريطانيون ولا حلفاؤهم برغيا واحدا لهذا الميناء الذي دمروه وكانت جهود المذكورين كافية لإعادة بناء المراسي وهذا هو المطلوب وأكثر من كاف بالنسبة لهم، فلم يطمحوا لأكثر من ممارسة التجارة عبره (التهريب طبعا) لسنتين أ وثلاث سنوات، لغاية استتباب النظام وظهور دولة مؤسسات وتنشيط وسائل الإعلام لكشف ما يحصل.هكذا خططوا لأن يسرقوا ما يمكن سرقته في أسرع وقت ليتربعوا على المال الذي سيجلب لهم السلطة ومقاعد البرلمان فيما بعد، ليتحكموا بمسير حتى السمكة في شط العرب ومنفذ الخليج.
العمليات الأولى
تساءل العراقيون ومن ورائهم المنطق والتاريخ : أين اختفت أسلحة الدمار الشامل؟وإذا كانت الإجابة بأن النظام دمرها منصاعا لقرارات مجلس الأمن ولجان التفتيش، وتوافق الإدارة الأميركية بدورها على ذلك أيضا، فيمكن تحوير السؤال ليكون كالتالي: أين اختفت مصانع ومنشآت التصنيع العسكري العراقية التي كانت تصنع أسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية على السواء؟!في أيام السقوط الأولى وما صاحبها من أعمال نهب تبعها حرق لطمس آثار لسرقة، كنا نبحث عن أسلحة الجيش، وعثرنا على قسم كبير منهاِ ودخلنا إلى كل الدوائر والوزارات والمنشآت الحكومية تقريبا، لكن ما لاحظناه حينها، أن منشآت التصنيع العسكري كلها أحرقت!!غير أن جدرانها فقط أحرقت، وسلالمها ومراحيضها، فماذا عن الخطوط الإنتاجية والمختبرات والمخازن؟!ماذا حل بها؟!لقد فككتها ميليشيا الأحزاب 'المنتصرة' بفضل أميركا وحملتها شمالا وجنوبا، فمن استطاع حملها شمالا، باعها الى إيران، ومن تمكن من حملها جنوبا، (أهداها) الى إيران أيضا، عبر ميناء 'أبو الفلوس' بالذات ، وسنريكم في حلقة قادمة، كم هي بسيطة هذه العملية، وكم كان باستطاعتنا لغاية هذه اللحظة تهريب أي شيء:ناس، خرفان، صواريخ أو أية لعنة أخرى للضفة الصديقة!
المقيدون
أهل الجمارك في ميناءي الفاو وأبو الفلوس قالوا إنهم يفتشون السفن الخارجة منهما والراسية فيهما ويتأكدون من 'المانفيست' ويسمحون ولا يسمحون ، واعترفوا بأنهم غير مسؤولين عما يجري في 'الموانئ الأهلية". لقد وضع هؤلاء أيديهم على أهم مفردتين في تاريخ التهريب العراقي : المانفيست والموانئ الأهلية.
كيف يمكنكم تصور شكل 'مانفيست' في دولة تباع جوازات سفر مواطنيها في بوابة مديرية الجوازات، وفيها يستطيعون تزوير أرقام أي سيارة أو باخرة ولون أي مولود جديدِ؟
ومن يحرر 'المنافيست" غيرهم؟!
وهل سمعتم قبلا، بأن دولة تحترم نفسها فيها : موانئ أهلية ؟!