السبت، 8 مارس 2008

المنافذ الحدودية النهرية والبحرية




في كرى النهب الملثم للعراق

"هل يكذب نورنا
هل الليل هو الواقع الوحيد؟"
-راينه ماريا ريلكه-

البصرة - د.جمال حسين علي:

المال الفالت يعلم السرقة، والحدود السائبة تعلم التهريب، والموجة المنطوية على نفسها لا تقيس الريح والأسماك في شط العرب غير محددات باتفاقيات تقسيم النهر، كما الأعشاب التي ليس لها صاحب و195 مترا طول النهر ليس لها ضابط ولا من يلجمون. قواهم اختلفت، وألوان ستراتهم يزينها العلم المتصارعين على ألوانه، وإن حركوا الأشنات بحثا عن الرغيف.. تركوا الجمل بما حمل، وإن قبضوا على الطيور النابتة أجنحتها توا.. ضيعوا العقبان، وإن اضطربت في مسالكهم البطات النهرية، ضحكت على شباكهم الغربان.هكذا حال مؤخرة البلاد المنهوشة، المفروكة والمعصورة كليمونة، في الثغر الذي طالما قالوا عنه بأنه باسم، في الفيحاء المواربة، والتي تقبلت كل عناقيد الغضب وفطائر الصواريخ منذ فجرها حتى مغيبها، والتي لم تبق حرب في الكرة الأرضية إلا ودكتها، فجرت متضرعة للنهر، عله يبدأ عدها وتعدادها، فصلها ومثواها، منجما أشواكها. أكثر المنافذ الحدودية المائية والبحرية التي يمصون دماء البلاد عبرها هي منطقة السيبة وميناء 'أبوالفلوس' وميناء الفاوِ عدا ذلك فالأمر نفسه يشمل كل 'الموانئ الأهلية' ابتداء من المعقل ومرورا بكل البصرة لغاية البحر، لكن للثلاثة المذكورة خبرة في الشق والنزع والتمويه وتتميز بالسرعة والتدجين، فالمسألة كما تبين، لاتستغرق أكثر من خمس دقائق، تكون فيها عصارة الوطن في مصافي الغير، الجاهزة، والملونة مستودعاتها، بما لذ ونار!
الاقتحام
ولعل أقرب نقطة حدودية تطل على مصافي إيران الحدودية، تقع مقابل 'السيبة' (قبل الفاو ببضعة كيلومترات). والسيبة إداريا ناحية، لكنها قرية مكتظة بالنخيل والشجيرات ومسالك الجداول والترع وطرق الخيول والناس العميقي الطيبة والممعنين بالبساطةِ اخترنا لدخولها وقتا يكون فيه الجميع متعبين من الظهيرة والغبار واليوم الريفي الشاق، وقت ما بعد الغداء الذي لا يكلف الله نفسا فيه إلا وسعها. وكان ينبغي علينا رؤية المكان وتصويره، ذلك الذي يأخذ ولا يعطي، يسلب ولا يروي، وكان ينبغي أن يكونوا متعبين لكي نفك ألغاز الحدود، وكان لزاما الانقضاض عليهم من حيث لا يعلمون، بمهل السلحفاة وروية العقرب ومكر الثعالب ودقة الثعابين وفضول الهررة.هكذا، وهكذا فقط، يمكن اقتلاع جذور 'التحقيق'، لتنضج جذوره وتستقيم جذوعه وتشع أوراقه: نشيج لاكفهرار العقدة التي سيطول الزمن لتبقى من غير حلال!
الخوض
لا علامات في الطريق الذي تسلكه الحمير فقط، بوابة لحظائر وبساتين مبعثرة معالمهاِ ليس سوى أفق النهر الهادي، الذي إن اقتربت منه، ستراه ملامسا للشاطئ والمرجة اليابسة. ولتبتدع أساليب الكلام والإيماءات والإشارات، حين يقابلك تلان، أولهما يستقر عليها جنديان للحدود بأسلحة عتيقة يقابله مباشرة، تل كما لوكانا حبة ومقسومة نصفين، عليه خروفان يزعقان بلا توقف، لوحة لعلها جسدت واقع الحال، تل من جنود جوعانين، وتل آخر من خرفان عطشانين، ولأنهم جنود فسيقتلونالجوع بالصمت، ولكونهم خرفانا فسيستغيثون حتى تركبهم موجة ماء.
كان هذا مفتتح، وجذر القضية برمتها، أن يحمي حدود البلد الشاهق الغني جنديان لا يشبه أحدهما الآخر بالبزة ولا السلاح، الذي بدا وكأنهم عثروا عليه في زريبة، متداخلين مع خرفان الأهالي، وكل منهما له النظرة الحمراء نفسها، تلك التي تميز العين التي أنهكها التعب والغبار والانتظار. ولم يكن اختراق الجنديين والوصول الى حافة الوطن وملامسة آخر موجة فيه، بحاجة الى استنشاق الدروس الماضية، فالمتحدث معهما بلكنتهما وتلك اللهجة البصرية المحتفظين بها في إناء الفؤاد، كافية لأن يقولا: لديك ما تشاء من حرية ووقت، صور ولو حتى الصباح!كان ذلك خطأ فظيعا من جنديي الحدود، فالمنطقة أكثر من استراتيجية، وتطل على أهم مصافي نفط في الإقليم وهي مجمع عبادان الشهير، الذي فقدت الدولتان على أعتابه كل قوتيهما العسكريتين تقريبا، في حصار عبادان الشهير الذي استمر سنتين متتاليتين، قبل أن يستعيد الإيرانيون 'المحمرة' في معركة دموية لم يبق فيها شارع في البلدين إلا وفقد فيه فلذة شبابه.
الإبصار
بقي الجنديان على حالهما فوق التلة مقابل الخروفين العطشانين، مدركين أن احتجازنا ومصادرة الكاميرا مسألة وقت، أسقطنا الصور على العدسة كرذاذ مطر محبوس على فنار مطفأ.وغير مرهوبين من القيظ، خرج اثنان آخران، ليصبحوا ستة، بسرعة ابتلاع الريق الناشف، انهم جميعا حراس الحدود المركونون في حوض المستنقع النهري الذي يطلقون عليه في نشرات الأنباء ويخطونه بالأحرف الأولى في بيانات مؤتمرات 'دول الجوار' التي لا تنتهي، مصطلح 'المنفذ الحدودي'. ويد على زناد الكاميرا وأخرى تهدئ من روعهم، أوقفناهم على الأرض وأخرسنا نواقيس اعتراضاتهم غير المبنية على ثقة كاملة بالنفسِ وسرعان ما تحول الأمر الى بداية صحبة، ونمو مشاعر، واجتذاب مفردات وصور تذكارية مشتركة.
المحتوم
الرجل الذي تقدم الينا زاعقا متوعدا، آخر ما كنا نتوقعه أن يكون ضابط المخفرِ فبحسب علمنا ان الضباط لا يلبسون الدشاديش في العراقِ وحتى إن لبسوها فلا تكون مهلهلة وبلا أزرار، لكنها النهاية المحتومة والمتوقعة التي حسبنا حسابا وجوابا لكل كلمة ستقال فيها. هي ذاتها التي تفصل بين الصحافي والشرطي على مر عصور المهنة: ممنوع التصوير! وتنتهي بـ 'سلمنا الأفلام'!طبعا، الأفلام جهزناها في جيوبنا الكثيرة وسلمناها بعد ترويض مجدول، لكنها كانت الافلام الفارغة فحسب، فكاميرتنا رقمية ولا تشتغل بالأفلام!!
المرارة
قال جندي: لوتنتظر قليلا حتى المساءِ عندما تغيب الشمس، سيحل في شاطئنا ظلام دامس وعتمة داجية ومن الشاطئ الآخر تنهمر علينا الأنوار وفيض من الأضواءِ لو تنتظر قليلا، لترى الليل والنهار يفصلهما نهر!
المكان الذي نقف عليه تجسيد حي لواقع العراق مع جيرانه ووصف الجندي لمنظر يراه يوميا بين أنوار الجيران وعتمة البيت مختصر للنظرية والبرنامج والفكرة الوطنية والمنهاج، بعيدا عن الردهات والاتفاقات ومحاور التوافقات وقوافي العذب مما يدركه الساسة ويمعن في ترديده الناطقون الرنانون.. هي الانشودة الوطنية المباحة: في بيتنا ظلام ولدى جيراننا كل الأنوار.
ظلامنا لأننا نهرب لهم نورنا!!
وظلامنا لأننا أدرنا ضمائرنا عن الوطن..
وظلامنا لأن القمر يرى والشمس شاهدة على المداخن والضوضاء والفوضى وعبارات الرصيف التي ما أغنت عنا مالنا وما كسبت أيدينا اللحظة المهيبة، الشديدة الرقة، ما إن حطمنا الجدار والصنم ووعاءه المشدوه ..
لم نتصور أن التهريب سهل لهذه الدرجة ورخيص وبسيط.. تأكدنا من الأمر عند نقطة 'السيبة' وفي هرج 'أبوالفلوس' ومرج الفاوِ ففي السيبة التي جلسنا فيها كثيرا مقابلة الساحل الإيراني، لم يكن ثمة من يمنع وينهي ويأمر ..القوارب والدوب' و'اللنجات' و'الصهاريج' تسير بهدى الأمواج وما تحمله اليوم يتبدل غدا، و'هوادج' التهريب دفينة كانت أم كنهها مدروك لا تبتعد عن النفط والبنزين والغاز السائل والديزل والأغنام والنحاس والأدوية والسجائر والمشروبات والمكائن والحديد والأسلحة والإرهابيين ..
العوامات

قال الجندي: 'انت ليش مدوخ نفسك، تريد أهربك كلك'!!وأردف الجندي: أصعد في هذا القارب وتتبع ذلك المركب، فهي ذاهبة الى 'بويه 29'!وضح الجندي: 'بويه 29' عوامة عليها فنار، يسلمون هناك ويقبضون ويعودون!وأفصح الجندي: هناك يتقاولون وكما لكل بضاعة ثمنها، فلكل صفقة تهريب مقاولتها أيضاِ وما 'تدهن به السير'.عدهم الجندي : المهربون بالمئات يعرفهم أهل البصرة فردا فردا.. كانوا سابقا من الموسورين الذين يعتمد عليهم النظام والآن بعد أن زال الخوف، أي واحد يمكنه ممارسة التهريب حتى لو كان بالأمس صاحب عربة حمار.بسطها الجندي: لا يحتاج الأمر الى أموال وفهم، يمكن لأي 'عربنجي' عمل ثقب في الأنبوب وتركيب حنفية عليه وبيع النفط لأصحاب عربات الحمير أي الى زملائه السابقين بحماية من بعض أفراد عشيرته المسلحين الذين يمر بهم الأنبوبِ وثمة من الذين لا يملكون 'ثقبا' يشترون النفط من تناكر الحكومة ليبيعونه بخمسين ضعفا.
الحماة
كان النظام يحمي البصرة (أو يهاجم الآخرين بالأصح) بفيلقين عرمرمين هما الثالث والسابع مع دعم لوجستي مستمر من فرق الحرس الجمهوريِ والآن ابتكروا القوة العسكرية التي تدافع وتحمي البصرة (من الإرهابيين بس!)ِوأطلقوا عليها' قيادة الحدود الرابعة الجنوبية' وأوكلوا إليها حماية الحدود الجنوبية (البرية والبحرية) وحماية الأنابيب النفطية وتأمين وصول المنتجات النفطية من الآبار الى مرافئ التصدير في موانئ: خور الزبير، أم قصر، خور العمية، 'أبو الفلوس' والفاو. وتقع على عاتق هذه 'القيادة' مسؤولية كل المنافذ الحدودية في البصرة، بما في ذلك صفوان (مخفران على الحدود الكويتية) والشلامجة (ثلاثة مخافر على الحدود الإيرانية)، بقدر تعلق الأمر بحدود البصرة فقط التي يضاف إليها مخفران في 'هور الحويزة' (مع إيران أيضا) بالإضافة الى مطار البصرة الدولي (نظريا)ِوهي مسؤولة عن 'الثقوب' أيضا التي رقعت الأنابيب بالتنسيق مع وزارة النفط التي تقوم بخياطتها من وقت لآخر.
المدافعون
وهم 'قوة الدفاع الساحلي' التي أنشئت على أنقاض 'القوة البحرية العراقية'ِ وظيفتها 'حماية الحدود المائية العراقية'.
للبصرة والعراق عموما، 58 كيلومترا بحريا وموانئ بحرية كثيرة هي الفاو وأم قصر وخور الزبير وخور العمية وميناء البكر وخور عبد الله والبصرة والمعقل وأبي الخصيب. وخصصوا حسب ما قاله لنا يوما اللواء الركن الطيار كوركيس هرمز سادة نحو 10 ملاين دولار لإحياء قاعدة أم قصر العسكرية البحرية ليلتحق فيها 400 من أفراد البحرية الجدد مجهزين بخمسة قوارب مطاطية للدوريةيتكون طاقمها من ستة أشخاص، هذه القوارب المطاطية الخمسة التي تتسع لستة أشخاص بيدهم ستة بنادق كلاشنكوف ستحمي بنظرهم حدود العراق المائية وساحله البحري ومياهه الإقليمية من 'عبث العابثين' وسطو 'المارقين' وتهريب 'الخاسئين'.. وهم القوة البحرية المحترفة التي ستحمي حتى الديموقراطية لو تطلب الأمر!
الطوارئ
وإذا كانت القوات المذكورة تحمي الحدود البرية والنهرية والبحرية، فلابد من وجود قوات تمنع وقوع السرقات وتلجم التهريب من مهده في داخل المدينةِ ولأن هذا الأمر من اختصاص الشرطة المحلية، فقد أنشأوا قوات للطوارئ، للإنصاف تبلي البلاء الحسن، حسب الكثير من المعطيات فقد ألقت القبض على الكثير من العصابات المتخصصة بالخطف الذي قل كثيرا عن السابق وكذلك اعتقلت وصادرت الكثير من آليات المهربين الصغار (عجلات حوضية وتناكر صغيرة وعربات حمير وغيرها).قوة الطوارئ هذه عبارة عن فرق متخصصة لملاحقة الجرائم المنظمة كالتهريبِتجدر الإشارة الى أن عصابات التهريب تتشابك مع عصابات السرقة واللصوص، فهؤلاء يسرقون أبراج الضغط العالي ليبيعونها الى المهربين الذين يصدرونها الى إيران وغيرها نحاسا..لذلك فان التهريب يتسبب في انقطاع الكهرباء أيضا وليس نهب الثروات فحسب،الغوص هذا هو الواقع وما يحصل فيه، وهذه هي جهود الارتقاء بالبلد ومن فيهِ فلكل يوم أسود لحظاته البيضاء، ومهما ازداد الأشرار فانها لو خليت من الطيبين لقلبتِعالم البصرة يثقل للغاية على قدر ثرواتها وحملها يكبر وحلمها يستطيل وصفحتها الخضراء تتكامل بالمياه التي صارت علتها وجواربها المثقوبة ورداؤها الملوث وباطنها الغدير بالثراء الذي جلب كل لصوص المجرة إليها. لندع صورة الليل والنهار المقسوم بنهر بين عتمتنا ونورهم، لطخ مع سبق الإصرار في جبين الزمن الذي مهما ارتعدت أجنحته لا ينبغي أن نتركه يمنحنا من فتاته خلسة، الآن وإلى الأبد.