السبت، 8 مارس 2008

كيلومتر الحرية



في مسالك الشارع المحلوم بالجديد


البصرة - د.جمال حسين علي:

منذ سقوط الملك الصالح، اهتم جنرالات العراق بقشور الأمور فيما يخص فائدة الشعب، وجوهرها فيما تنتصب فيه حاجاتهم ومصالحهمِ ومن عثرات الدنيا، التي قدر للعراقيين تجربتها، كانت 'الاشتراكية' كما فهموها وليس بالضرورة كما صاغها الاشتراكيون الأوائل.وعلى هداها منعوا الاستيراد والتصدير للقطاع الخاص واحتكرت الدولة ومؤسساتها كل هذه العمليات، بما في ذلك المصرفية والتجارية وما يتعلق بها من قريب وبعيدِأطعمونا حسب شهيتهم وألبسونا على ذوقهم وزينوا عرائسنا وفق نظراتهم وعالجونا بالأدوية التي تطيبهم ، وأثثوا أحلامنا وأحصوا اسماءنا بدل المرة ألف مرة دون أن يلهموا الحكمة من الخرقة والثبات من الجبل والمسرى من الجدول، هم الذين كانوا يقررون نوع المسحوق الذي ينظف ياخاتنا والمحجر الذي يعيد لمجانيننا العقل واللعبة التي تجمل صباحات أطفالناِ كانوا الخيط والمغزل والبيه والباشا، السائق والمدفع، والطلقة والعصفورِ بمشيئتهم نفطر وبفضلهم نصوم وإن عن على أحد الاستراحة فيجعلون استجمامه الأخير فيما تلتهمه عيناه من تساؤلات وما تطحنه معدته من رغبات. ولم يكن أمام البصريين المولدين أحرارا، غير اكتشاف أعيادهم بأنفسهم وهم المجاورون لثلاثة بلدان منفتحة في مجال الاستيراد: إيران الشاهنشاهية السائرة على النمط الأوروبي والكويت المجبولة بالجديد والسعودية الناهضة.. وكان من المستحيل ايضا على البصري الذي يرى بأم عينيه ما تحمله البواخر وما تنوء به المرافئ وما تشدو عنده المراسي، قبول سلعة فرضها ضابط تموين أو معلم قرأ عن 'العدالة الاجتماعية' بكراس مترجم يوزع مجانا للكادر المتقدم للحزب لكي يطبق أصولها وفصولها على رأسه.. وكان من المستحيل ايضا على البصريين المزهو ريشهم بالفخار وبعمق تاريخي لا تنافسهم عليه إلا مدن قلائل في الكوكب، الارتضاء بما سنوه ودبجوه ونشروه كمرسوم وحاشية لدستور في 'الوقائع العراقية'ِلقد انتصر البصريون دوما على القمع والغباء والتخلف والنفور والعزل وكانوا دائما سرب زرازير ولمعة نوارس وعشبا لا ينام حتى يروى ودماغا لا يستكن حتى يفهمِ وكانوا السباقين في أن يلونوا مدينتهم ويحملوا الفكرة التي يتحملونها والصورة المولودة في سمت أيامهمِ وكغيرها من النكبات، وجدوا الحل للعزلة غير المواتية المفروضة عليهم من المركز المتسلط، أن استدرجوا الزمان وطوعوه، فارضين عليه الشكل والجوهر، النبع والمصب، لكي تتزوق عروسهم كما تشاء وتغتسل الحامل كما ينبغي، ويتذوق الطفل بهجة اللعبة ويدخن الناس كما يشتهون ويدهن الشيخ رأسه بالمرهم الذي يطرد عنه الأرق، فكان افتتاح شعبي لأول منطقة للتجارة الحرة في العراق، لم يختلف اثنان في البصرة على إطلاق تلك التسمية المنطقية عليها والتي مهما اشتدت الخطوب ستبقى محافظة على ترتيبها وأحرفها: شارع الكويت!
تعلو قليلا عن النصف الثاني للعشار، الذي يقسمه نهره الخالد، منطقة اختارها التجار المهتمون بالخضار في عرض بضاعتهم وبناء مخازنهم التي يسمونها 'العلوة' ومن هذه الابتكارات كانوا يطلقون على زحام البطاطا والطماطم والخيار وغيرها اسم شارع 'الخضارة'. لم يكن ثمة تنظيم في الأماكن التي يباع فيها الخس والرقي والبصل بطبيعة الحال، وكانت هناك بيوت شناشيلية على طراز 'البكاري' تستقر على مرتفع هنا وآخر هناك، متهالكة للغاية كساكنيها الأرامل واليتامى والمقطوعة ذريتهم والمنسيين لنهاية الدهرِ وبعد انفجار أسعار النفط في السبعينات وما تلا ذلك من انتفاضات عمرانية في الإقليم برمته، طالت سوق الخضارة وشناشيله القديمات بالرافعات وعمليات الهدم والبناء، مفتتحة عهدا جديدا لشارع سيدخل في كل بيت بصري.
الكنز
في تلك الأوقات ضاقت أسواق 'المغايز' و'حنا الشيخ' و'الهنود' و'الوطني' بالمشترين، بعد أن توسعت التجارة وزادت نفوس مركز البصرة بتقبلها هجرة الريفيين الجماعية الى المدينة ومصاحبة ذلك زيادة في القدرة الشرائية.وفرض اختناق الأسواق الرئيسية التفكير بالقطعة الباقية والممتدة بنحو كيلومتر طولا و 50 مترا عرضا والمفروضة بتوازي نهري العشار والخندكِوصاحبت عملية هدم الدور القديمة أشهر حادثة بعد أن عثر البناؤون أو الهدامون على كنز فيه ليرات عثمانية ذهبية وقلائد وحلي كثيرة ملتصقة بأحد الجدران لبخيل أو بخيلة، مات أو ماتت، دون أن يخبر أو تخبر أحدا عن مكانها السري، الذي أهدته طبائع الأمور وقوانين الدنيا للفاتحين الجدد لحضارة شارع الكويت.
النمو السريع
دورة البصرة الدموية والمزاجية لم يدركها لا السابقون ولا نعتقد بأن اللاحقين متمعنون جيدا في معرفة طبائعها ولا مهمومون في جس نبضها وارتعاشها وتضميد نهارها، ومن صفاتها وصفاتهم، أنهم يتقبلون السريع بجري غير معتاد، كما حصل في قصة شارع الكويت، فالبسطات والعربات والسقائف والحصران والمظلات التي كانت البذرة الأولى لمنطقة التجارة الحرة، سرعان ما تحولت الى عمارات لم يفلح الناس في تتبع نموها، والعمارات كانت تبني المحال في طوابقها الأولى، فبدا الشارع مزدانا بالأنوار والإعلانات وما تيسر لهم من إشارات وألعاب ضوئية، نورت الطريق الذي عبد نفسه بالمال الكثير الذي أنفقوه لكي يشيد أهم مركزتجاري في المدينة الوحيدة في العراق التي تخططها الأنهر وفيها نفط وميناء وبحر وأجانب وتحدها ثلاث دول دفعة واحدة.
الأيام الأولى
ثمة قانون لم يفكر به أي مجلس لقيادة الثورات العراقية هو: السلعة الجيدة هي السلعة المهربة! ومهربة لأن عقول حكام العراق لم تؤمن بأهميتها لا أكثر ولا أقلِ فلماذا يكون معجون الأسنان سلعة مهربة وكذلك الصابون أو قطعة الجبن أو الشوكولاتة ؟كانت هذه 'السلع الغريبة' تصل الى الشارع غير المسمى بعد والذي يزدحم بالرافعات وعمال البناء والحصى والرمل والطابوق والإسمنت، بواسطة النساء اللواتي يخبئنها تحت عباءاتهن ؛ بمعنى واسع، أن البضاعة الأولى كانت من الصغر بحيث يمكن حملها وتخبئتها من قبل الباعةِ وبتفسير أدق، أن تجارة شنطة بدأت بين البصرة والكويت.
الطريق الى الكويت
والكويت في هذه الأوقات كانت أيضا تشهد نهضة عمرانية وتجارية ووصلت بدورها الى البصرة، ويجدر التوقف عند بعض حقائق التاريخ:أولا، كان انتقال الكويتيين الى البصرة والبصريين الى الكويت سهلا جدا، وكان 'سره' الكويت عند سينما الكرنك مقابل ساحة 'أم البروم' ونذكر للآن أن السواق كانوا يصرخون طوال اليوم: كويت.. كويت نفر واحد وقد يضطرون لانتظار هذا "النفر" ساعات طويلة. ثانيا، هذا 'السره' موجود شبيه له في الكويت، والفارق أن السواق يصيحون هناك: البصرة.. نفر واحد. ثالثا: كانت أجرة الذهاب الى الكويت دينارين للشخص الواحد. رابعا: لم تكن 'الفيزا الكويتية' صعبة أبدا، ووصل الأمر الى أن القنصل الكويتي في البصرة (بموافقات عليا على الأرجح) قرر في وقت ما دخول البصريين بدون فيزا. (تنقل أبناء دول مجلس التعاون الخليجي الآن بالبطاقة المدنية هو اكتشاف كويتي ـ بصري قبل نصف قرن).خامسا، لم يذهب بصري واحد الى الكويت ليضيع في شوارعها والعكس صحيح بالطبعِ فالدولتان والشعبان تضبطهم القوانين جيدا وكان كل طرف يسافر الى الآخر بهدف، الراحة وتغيير الجو وزيارة الأقرباء والأصدقاء.
النمو التجاري
قوة الارتباط ما بين البصرة والكويت ساهمت في تنشيط 'البيزنس' الصغير أو تجارة الشنطة التي وجدت لها منافذ محدودة، لم تشبع حاجة السوق البصرية للبضائع الجيدة القادمة من الكويت وأدت زيادة الطلب على فتح قنوات 'البيزنس' المتوسط الذي لم يتعد أكثر من تجارة البضائع المحملة 'بوانيت' أو شاحنة صغيرةِ حيث لم تسمح القوانين العراقية بأكبر من ذلكِ وكان تجار الوانيتات يوصلونبضاعتهم الى شارع الكويت في البصرة بتنسيق وتعاون مشترك، بل بتواطؤ موظفي الجمارك في صفوان، ولم يكن ذلك كافيا، بعد الانتعاش الكبير الذي شهده السوق الذي راحت شهرته تعم العراق كله، وأمام القيود الكثيرة التي كانت تفرضها السلطات العراقية على البضائع الكويتية، لم يكن ثمة مفر من حل هذه الأزمة سوى التهريب!
أنواع التهريب
في هذه الأوقات عرفت البصرة التهريب بشكل لم يسبق له مثيلِ وكانت شرائح كثيرة تمارسهِ فسواق النقل البري من العراقيين الذين كانوا ينقلون البضائع من الكويت بشكل رسمي، كانوا يدسون بينها بضاعتهم الخاصة المخصصة لشارع الكويت. وثمة تجار الشاحنات الصغيرة الذين ينسقون وضعهم مع مأموري جمارك صفوان بالتناوب، بالإضافة الى التهريب عن طريق الحدود الصحراوية، التي تركها البلدان لمراقبة قوات الجمارك المتواضعة جدا من النواحي الفنية والتسليحية، مع اهتمام بسيط للغاية من قوات محدودة لحرس الحدود، في ظروف كان الأمن يسود المنطقة ولم تتعرف شعوبه الى مفردات مثل 'الغزو' و 'الإرهاب' وغيرها. وحسب روايات شهود العيان من المهربين وعاملي الجمارك، فقد كانت الحدود بين الكويت والعراق شبه سائبة، ولم تكن عملية نقل حقيبة ساعات يدوية وكرتون عرق من هنا و كرتون سجائر من هناك بالمقلقة لأمن أي منهماِ وكان ثمة تغاض مريح، طالما أن المهربين لا يخرقون قواعد اللعبة ولا يجتازون الخطوط الحمر. واستمر تهريب السلع ونشط للغاية في السبعينات، فقد كانت الكويت هدف المشروبات من العراق، والأخير يتقبل كل شيء من الكويتِ ووصل نشاط المهربين درجة عالية من الثقة لغاية تهريب البشر والمعارضين الذين بدأت طلائعهم تظهر ما أن بدأ النظام العراقي يبين ملامح قمعه الأولىِ وكانت رخاوة الحدود وخبرة المهربين وعوامل أخرى، من أهم أسباب انتعاش وازدهار الفترة الذهبية لشارع الكويت.
الوقت الذهبي
لم يمح تطور الشارع ومحلاته التجارية الاكشاك والعربات والبسطات، بل كان الجميع يعمل وكانت البضائع الكويتية 'تطير' من الشارع الذي تحول الى منطقة للتجارة الحرة بشكل حقيقيِ وأدى انتعاش البصرة بشكل عام وتحولها الى مركز جذب لكل العراقيين وخاصة في الفصول الثلاثة عدا الصيف، وانتشرت ظاهرة قضاء شهر العسل في البصرة لمن يتزوج في العراق، وزيادة الوحدات العسكرية العاملة فيها وتوسع الجامعة لتضم كل طلبة المحافظات الجنوبية، الى زيادة الطلب وعدد المشترين في شارع الكويت. وأخذ يتوسع بالتدريج ليتحول الى تجارة الجملة، لاسيما السجائر الأجنبية التي كانت تجارتها مقيدة جدا في العراق كما كان الحال بالنسبة للعطور وأدوات الماكياج والأقمشة والملابس الرجالية والنسائية وغيرهاِوشجع تزايد عدد الباعة والمشترين على السواء ومن ينقل البضائع ومن يحرسها ومن يدفع الأموال ومن يحسبها، الى ظهور جيش من غير البصريين الذين يحتاجون الى راحة ومبيت وسكنِ لذلك بنينا بلمحة عين 17 فندقا بمستوى الفنادق الجيدة في المدينة في شارع واحد يمكن أن يمشيه المرء بخمس دقائق كل متر فيهمقهى ومطعم.
الشارع الآن
لا يزال هذا الشارع ضاجا ومزدحما ويمكن لهذه الدقائق الخمس أن تصير ساعة لو كنت في سيارة، فالشارع تغلقه الشاحنات التي تحمل الأجهزة الكهربائية المختلفة والصوتيات والمرئيات والكمبيوترات والثلاجات، والشارع حافظ على نشاطه، لكنه فقد تفرده السابق بأنه شارع السلع الجيدة (الكويتية)، وزادت فيه الأنقاض وكثرت القمامة التي قرروا عدم رفعها ليوم الدين وإن كانت المحال هي السبب فيها. هرمت فنادقه واختفت مقاهيه وقلت مطاعمه وخبا نوره وغابت تلك القناديل الملونة النيونات الراقصة وزعيق المسجلات اليابانية الأصلية بأنواع الطرب.تراجع شارع الكويت، كما تراجع الجميعِغير أن أطرف ما في الأمر، انه لا في السابق ولا في الحالي، يوجد شيء رسمي يثبت أن هذا الذي نتحدث عنه اسمه: شارع الكويت!