المرحلة الرابعة في العلاقات بين الاسلام والدولة السوفيتية حلت في بداية الخمسينات، حيث تغير في هذه المرحلة "الذوبان الديني" وطبعها الضغط على المؤمنين يصاحبه زيادة الدعاية الالحادية. ويفسر هذا التحول بعدم حاجة السلطة الى تأييد الدين وبالأخص رجال الدين. ونشأت لدى الحزبيين المحترفين والايديولوجيين المخاوف من ان التوجه للدين في سنوات الحرب كعامل لرص المجتمع وتوحيده قد يخرج من السيطرة وقد يخرج معه المجتمع برمته من الرقابة. وكان الوعي الديني يتحول الى منافس للينينية.
وبناء على ذلك اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في 7 يناير 1954، قرارا حول " النقص الكبير في الدعاية العلمية الالحادية واتخاذ الاجراءات لتحسينها " ، أشير فيه الى ان " الكنيسة ومختلف الطوائف الدينية انتعش عملها وتعززت كوادرها ونجحت في نشر ايديولوجيتها الدينية وسط فئات واسعة ومختلفة من السكان التي ما زالت تعاني من التخلف وتتكيف مع الظروف المعاصرة " ، وذكر في القرار الاسلام أيضا وظاهرة حج المقدسات في آسيا الوسطىِ ويقضي القرار باتخاذ كافة التدابير لتربية السكان على الالحاد. واتخذت القرارات بعدم السماح بفتح مساجد جديدة ومنع نشاط الدعاة والوعاظ وزيادة الضرائب عليهم.
ولم تهبط الموجة الجديدة من الضغط على الدين بعد قرار اللجنة المركزية أعلاه، بل اتخذ قرارا آخر في نوفمبر 1954، حول " تصحيح أخطاء الدعاية الالحادية بين السكان " ، وعبرت السلطة فيه عن أسفها من القسوة غير المبررة واضطهاد الأديان. ولكن عملية سحب المساجد استمرت واستخدمت الدور الدينية وقطع الاراضي الملحقة بها لأغراض اقتصادية غير مرتبطة بالمرة بالدينِ فمثلا استخدمت مقبرة المسلمين في "أوفا" كساحة للتدريب العسكري لوحدات من الجيش.
واشتدت السياسة المعادية للدين في الستينات ، ووجهت الضربة كما حصل في العشرينات الى الارثوذكسية ، لكن السلطات لم تنس الاسلام ايضا ، وفي الاعوام 1960 ـ 1965 بدأ اغلاق المساجد في مناطق الفولغا من جديد.
وأعاقت السلطات الفعاليات الدينية وضايقت رجال الدين المسلمينِ ولم تكن للشباب عمليا أية فرصة للحصول على التعليم الديني.
وأصبح النضال ضد التقاليد الدينية اليومية أحد الاتجاهات الرئيسية في العمل الالحادي في الستينات ـ السبعيناتِ لكننا نشير الى انه بالرغم من الضغط الالحادي الطويل والقاسي واجراءات التنكيل، كان المسلمون يواصلون تأدية طقوسهم والاحتفال بالأعياد الدينية خاصة في المناطق السكنية التي يشكلون اغلبيتها.
تزوير المعلومات
وكانت تجري في الستينات ـ السبعينات في المناطق الاسلامية استطلاعات للرأي العام لمعرفة حقيقة الحالة الدينية. غير ان هذه المعلومات كانت تحرف في نهاية الامر لان القيادات الحزبية في المناطق والمحافظات كانت تسعى لاظهار فعالية عملها الايديولوجي والالحادي، ولذا فهي تخفض من المعطيات الدينية الخاصة بالسكانِ ويمكن الحكم على واقع الامر من الشهادات غير المباشرة بضمنها اقوال بعض الخبراء والمحللين القريبين في ذلك الوقت من السلطةِ اشير مثلا الى كتاب وهابوف الذي جاء فيه بالرغم من التغييرات الجبارة الجارية في حياة شعوب الشرق السوفيتي نصطدم مع ذلك بالكثير من الارشادات الاسلامية وخاصة ما يتعلق بالعلاقات العائلية والموقف من المرأةِ واشار المؤلف نفسه الى ان الدين يؤدي دور خالق الاصالة الوطنية وحافظهاِ وبالتالي يكون الولاء للاسلام وتقاليده وفقا لاحاديث ممثليه شرطا ضروريا للولاء لمعتنقيه.
وكان السعي لتقسيم التقليدين القومي والديني اللذين يرتبطان في الاسلام بصورة أمتن منه في الأديان الأخرى واحدا من أهم اتجاهات الدعاية الالحادية و " العمل الايديولوجي ".
وشجبت جريدة 'برافدا' في بداية السبعينات بشدة محاولات مطابقة الدين بالتقاليد القوميةِ غير ان هذا الموقف مقضي عليه بالفشل بموجب الصلة التاريخية والثقافية للتقاليد القومية الاثنية والدينية.
وبالعكس كان ذلك ينزل الضربات على سمعة السلطة التي لعبت في نظر المسلمين دور مضطهد تقاليدهم الوطنية. واضافة الى ذلك، تشكل بين جزء من الباحثين والحزبيين الملحدين الاعتقاد بانه من الممكن مجابهة التقاليد العائلية في شمال القوقاز بالتقاليد الاسلاميةِ وأملي هذا بمطالب "تقريب وسائل واشكال التربية الأممية والالحادية من خصائص العلاقات العائلية ومجموع سكان منطقة ما".
ومن غير المعقول انكار اللامبالاة الدينية التي انتشرت وسط جزء من المسلمين وبالاخص في المدن خلال سنوات السلطة السوفيتيةِ وتميز ذلك بالنسبة للجاليات الاسلامية التي كان عدد الزيجات المختلطة كبيرا. غير ان استطلاعات الرأي التي اجريت في الاقاليم الاسلامية المتراصة اكدت بشكل عام على ثبات الاسلام ووجود " نواة " المحافظة عليه ولم يكن ذلك وسط رجال الدين وكبار السن فحسب، بل وسط فئة السكان النشيطة بما في ذلك الشباب.
في هذا الصدد ، يشير الاميركي الذي أسلم بينيغسين الى انه 'مقارنة المسلمين مع المواطنين السوفيت الآخرين تظهر بوضوح تلك الحقيقة التي تذهل حتى مراقب مهمل للغاية: تبدي فئات المجتمع الاسلامي كلها الرغبة في ابقاء حضور الدين ولو بشكل رمزي في كل نواحي الحياة الاجتماعية والخاصةِ ويكمن في ذلك الفرق الجذري بين المسلمين والروس الذي اعرض اغلبهم عن عقيدة اجدادهم'.
النشاط الإسلامي
وازداد النشاط الديني لمسلمي روسيا في النصف الاول من الثمانينات بعض الشيء ، ويربط ذلك بانتخاب 'عين عمليا' الامام طلعت تاج الدين رئيسا للادارة الدينية لمسلمي الشطر الاوروبي من روسيا وسيبيريا في عام 1980 ، والذي اصبح مرشدا لمجموعة الائمة الشباب لمناطق الفولغا الذين اثر نشاطهم في التسعينات في عملية الصحوة الاسلامية تأثيرا كبيرا وفتحت في نهاية السبعينات عدة مساجد في ساراتوف وتشيرمخوف 'منطقة اركوتشك' ، وسجل بشكل عام في نهاية الثمانينات في اراضي الاتحاد السوفيتي 1330 مسجدا ، وبقي في اراضي روسيا 94 مسجدا فقط، وقال تاج الدين انه كان في روسيا مطلع التسعينات اكثر من 70 مسجدا بقليل. واتخذ في 18 اغسطس 1986 القرار الأخير للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في مسألة الدين والخاص بـ "تقوية النضال ضد النفوذ الاسلامي " ، واتخذ هذا القرار بسبب الحالة في آسيا الوسطى، حيث بدأ نشاط السلفيين في الثمانينات والذين لم يخضعوا لسيطرة رجال الدين الرسميين وكانوا يدعون الى بعث الاسلام ويذودون عن فكرة وحدة الاسلام والسياسة ويتضامنون مع مقاومة المجاهدين الافغان للاحتلال السوفيتي.
وكان زعماء الاتحاد السوفيتي يدركون بالطبع ان هجوم الاسلام السياسي وازدياد نفوذ انصار الاصولية الاسلامية في العالم بأسره والثورة الاسلامية في ايران وعناد الجهاد الافغاني لا بد وان يجد له صدى بين المسلمين السوفيت بمن في ذلك المسلمون الساكنون في الاراضي الروسية. وكان الشباب رغم عدم اهتمامهم بالامور السياسية يركزون انظارهم على الاحداث الجارية وكانوا يدركون ان الشباب هم الاكثر نشاطا في الاحداث الدينية ـ السياسة الجارية في الشرق الادنى والاوسطِ
وسبقت 'النهضة الاسلامية' في السبعينات ـ الثمانينات تفتت الاتحاد السوفيتي اللاحقِ واظهرت الثورة الاسلامية في ايران والظفر السياسي للاسلاميين في السودان والجهاد في افغانستان ونهج باكستان الاسلامي وسمعة المملكة العربية السعودية الرصينة والثابتة وغير ذلك من الكثير من الآخر قوة الاسلام وقدرته السياسية.
وانشأت بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف مقدمات النهضة الدينية للاتحاد السوفيتي واعطيت دفعة جديدة للنقلة التالية لنشاط الاسلام السياسي والذي اصبحت آسيا الوسطى احدى بؤرهِ ان استيقاظ الاسلام المفاجئ (كما بدا للكثيرين) في الاتحاد السوفيتي السابق كان في الواقع عملية طبيعية وحتمية ودليلا على تحول المجتمع السوفيتي السابق التدريجي الى مجتمع ديموقراطي ومبادرة لاعادة انشاء الطبيعة التاريخية الثقافية للمسلمين السوفيت وتكاملهم مع العالم الاسلامي.