السبت، 18 يونيو 2011

الكرملين وأزمة الكويت (1)

تأليـف : الكسندر بيلونوغوف

ترجمة : د . جمال حسين علي

موسكو - دار أولما بريس 2001


يعد هذا الكتاب أول منشور باللغة الروسية يتحدث بالتفصيل عن الغزو العراقي للكويت وما رافقه من أحداث مأساوية لغاية تحرير البلادِ ويسرد المؤلف الكسندر بيلونوغوف الذي كان يشغل في تلك الأشهر العصيبة منصب نائب وزير خارجية الاتحاد السوفيتي كمشارك في الأحداث عن كيفية تشكيل موقف الاتحاد السوفيتي حيال الأزمة وعن تقلبات محادثات موسكو المختلفة ويحاول الإجابة عن السؤال: لماذا لم يتسن لأحد إيجاد مخرج سلمي للأزمة بالرغم من كافة الجهودِ
وسيعرف القارئ لأول مرة في هذا الكتاب الكثير من الظروف الغامضة التي أحاطت بواحدة من أكثر أحداث القرن العشرين دراماتيكية في العالم ومنطقة الخليج، دون أن تفوتنا الإشارة الى أن ذلك سيكون من 'وجهة نظر موسكو' بتأكيد المؤلف نفسهِ


عينت نائبا لوزير خارجية الاتحاد السوفيتي في 23 أبريل 1990، وكنت أعمل في الحقل الدبلوماسي أقل بقليل من 36 سنةِ قضيت السنوات الأربع السابقة في نيويورك رئيسا للبعثة الدبلوماسية السوفيتية لدى الأمم المتحدة وفي آن واحد ممثل الاتحاد السوفيتي في مجلس الأمن الدوليِ وكان هذا المنصب وسيبقى، واحدا من أهم المناصب في منظومة وزارة الخارجية بناء على كثرة الاختصاصات التي يحملها والتعقيدات التي كثيرا ما تنشأ في العالم وتسترعي اهتمام مجلس الأمنِ ولكنني اقتنعت بأن هذا المنصب أهم تعيين دبلوماسي وممتن جدا لعملي، كوني تخرجت في الأمم المتحدة من مدرسة الدبلوماسية المتعددة الجوانب والفريدة والمفيدةِ
قبلت اقتراح شيفرنادزه بأن أصبح نائبه بشعور من الثقة والهدوء معتبرا ذلك داخليا مرحلة طبيعية من الترقي الدبلوماسي الطويلِ
باشرت عملي الجديد في نهاية مايو 1990 بعد عودتي مباشرة من نيويورك وكلفت بقطاع واسع من القضاياِ وكان علي أن أشتغل بعلاقات الاتحاد السوفيتي مع عشرات من دول الشرق الأوسط والأدنى وأفريقيا ومن أفغانستان حتى جنوب أفريقياِ لا سيما أن هذه المنطقة معقدة بما فيه الكفايةِ بما في ذلك طابع نزاعاتها الداخلية والدولية على السواءِ واتفق أن تعاملت مع الكثير منها خلال عملي في نيويورك مثل: النزاع العربي - الإسرائيلي وافغانستان، والصحراء الغربية، وانغوليا، وموزامبيق والنزاع في القرن الأفريقي وغيرهاِ واحتجت في المنصب الجديد إلى الاستفادة من تجارب العمل السابقة عندما كنت سفير الاتحاد السوفيتي في مصر ومدير قسم الشرق الأوسط وأفريقيا في إدارة تخطيط إجراءات السياسة الخارجية في وزارة الخارجيةِ ولهذا السبب لم يعكر عملي سعة الإقليم ومشاكلهِ واعتقدت بأن أفغانستان ستكون مصدر صداعي الرئيسيِ ولم تكن في ذلك الحين قوات سوفيتية هناك، بل كانت البلاد ملتهبة بالحرب التي كانت فيها موسكو تساعد الرئيس نجيب الله الذي لم يكن وضعه مستقراِ وكان الشرق الأوسط يثير قلقا معينا لدينا، حيث كانت الانتفاضة الفلسطينية تدخل عامها الثالثِ
وحاولت في البداية الإطلاع على القضايا الخاصة بعلاقاتنا الثنائية مع البلدان التي كان علي أن انشغل بها والتعرف على سفرائها وهياكل الوزارة الخاضعة لي وإقامة الاتصالات التي كان ينبغي في المستقبل القريب أن أحل معها هذه المسائل أو تلك بصورة مشتركةِ
وفي الصيف كان يصل أغلب سفرائنا في هذه الدول أيضا للتمتع باجازةِ وكان علي أن التقي بهم للتعرف ومناقشة التفاصيل الخاصة بكل بلد، ولكي أتلقى المعلومات من الأيدي الأولى، إلى ذلك من مناقشة مشاكل السفارات والاتفاق معهم على إجراء الخطوات اللاحقةِ
استمرت هذه الهموم خلال يونيو ويوليو دون أن أشعر بمرور الوقتِ وفجأة انفجرت الحالة بشيء آخر تماما وبأهمية أخذت المقام الأولِ فقد أصبح استيلاء العراق على الكويت في مركز كل الحياة الدولية (وحياتي بالطبع)ِ
لم يتوقعوا هذا التطور في الكويت ولا في البلدان العربية ولا في الولايات المتحدة ولا اوروبا الغربية وإسرائيل وتركيا وإيرانِ ولم يسلموا بأي شيء شبيه في موسكو أيضاِ وبالمناسبة ليس في وزارة الخارجية وحدها، بل في المؤسسات الأخرى بما في ذلك الاستخبارات العسكرية ولجنة أمن الدولة (كي جي بي)ِ واضطر الجميع للرد فعلا وبصورة سريعة جدا على النزاع المندلعِ
لا يعني ما قيل أبدا بأن أحدا لم يكن يلاحظ توتر العلاقات العراقية - الكويتية الذي حدث قبل ذلك وإلى مبالغة بغداد المعادية للكويت ونقل قواتها الى الحدود معهاِ الجميع شاهدوا ذلك بوضوح وكان الرؤساء العرب يعرضون المقترحات والوساطة بغية رفع ضغط بغداد عن الكويتِ غير أن أحدا لم يستطع التصور بأن دولة عربية عضو في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ستقدم في نهاية القرن على الاستيلاء المسلح على دولة عربية أخرى ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمات دولية أخرىِ بدا أن مثل هذا الحادث لم يكن ممكناِ
مر القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بهدوء على أهالي الكويتِ غير أن القرن العشرين حمل معه تغيراته الهائلةِ فقد اكتشف النفط في الكويت عام 1938 وبدأ استخراجه في عام 1946 مفتتحا عصرا جديدا تماما في تاريخ الكويت متمثلا في صعودها الى قمة الرقي المالي والإمكانات المقترنة بتحويل البلد المتخلف والفقير جدا في الماضي الى بلد معاصر للغايةِ
وأدت الضجة النفطية في السوق الى تغييرات ديموغرافية كبيرةِ وكانت موارد الكويت البشرية غير كافية بالمرة على استيعاب هذه التغييراتِ ونشأت الحاجة الى تدفق القوى العاملة وخاصة الكفوءةِ واندفع الى الكويت من الخارج مئات الألوفِ وبالرغم من الطابع الصارم للسماح للأجانب بدخول الكويت، إلا أنهم مع مرور الوقت مثلوا أكثر من نصف سكان البلد (قرابة 60 %) بما في ذلك الجزء العامل منهم بنسبة 85 %ِ ونشأ مجتمع فريد من نوعه حيث شكل سكان الكويت الأصليين قمة الهرم، أما الطبقات الدنيا فقد مثلتها فئات غير المواطنين الذين نظم وضعهم السياسي والحقوقي والاجتماعي من قبل المراجع العلياِ وإن كان هذا النظام بعيدا عن أنماط الديموقراطية الأميركية والأوروبية فان عدد الناس الراغبين في الحصول على إمكانية العمل والعيش في الكويت كان وسيبقى أكثر من اللازم بسبب مستوى الحياة الجذاب جدا في هذا البلد الصغير من الكرة الأرضيةِ وفي عام 1990 بلغ عدد سكان الكويت 1، 2 مليون نسمة تقريباِ
وتتحدد حالة هذا البلد الممتازة بثرواته الطبيعية الجبارة (بالأخص عند مقارنتها مع أراضي الكويت الصغيرة) التي تشكل نسبتها 10 % تقريبا من احتياطات النفط العالميةِ وكانت الكويت لحظة الاستيلاء عليها من العراق تحتل المرتبة السادسة لأكبر منتجي النفط في العالمِ
ووظفت الكويت الأموال الحاصلة عليها من استخراج وتصدير النفط داخل البلاد وخارجها وفي بنوك اوروبا والولايات المتحدة وصناعة بعض البلدان النفطية ومحطات البنزين في إيطاليا حتى الدانمرك وفي الكثير من المجالات المربحة الأخرىِ ويعتقد أن استثمارات الكويت الخارجية تجاوزت لغاية عام 1990ال 100 مليار دولار ووصلت ودائع الكويتيين الشخصية 50 مليارا أخرىِ
وبدأ دخل الكويت من استثماراتها الخارجية يفوق دخلها من النفط المستخرج، الأمر الذي أضعف تبعية الكويت لتقلبات أسعار النفط في السوق العالمية، وبالتناسب أضعف ضرورة ترابط أحجام استخراج النفط بالحالة التي تشهدها السوق العالمية للنفطِ ومن الممكن أن هذه الحالة حسنة بالنسبة للكويت نفسها، غير أن لمصدري النفط الآخرين نظرتهم الأخرى لخصوصية الكويت هذهِ عدا الادعاءات الشاملة بكل الكويت، كانت لبغداد ادعاءات ذات طابع جزئي، بالمفهوم الإقليمي للكلمة: أولا، نقل أو على الأقل إيجار جزيرتي وربة وبوبيان للعراقِ وهما عبارة عن تشكيلات رملية مسطحة غير مأهولة واقعتين بالقرب من مصب شط العربِ وكانوا ينظرون إليهما كمواقع هامة استراتيجيا تأمن دخولا قويا للعراق للخليجِ ثانيا، منح العراق الجزء الكويتي لأغنى مواقع النفط في العالم وهو حقل الرميلة (احتياطي النفط فيه 30 مليار برميل)ِ ويدخل هذا الموقع النفطي الشبيه بالموزة ممتدا من الشمال الى الجنوب لعشرة كيلومترات تقريبا في أراضي الكويتِ وكان العراق ضجرا جدا بوقوع 90 % من هذا الحقل في العراق وكانت تستخرج منه الكمية نفسها التي تستخرج في القطعة الكويتية الصغيرةِ وفي سنوات الحرب العراقية - الإيرانية زرع العراقيون الألغام في آبارهم النفطية في الرميلة وكان النفط يستخرج في قطاع الكويت فقطِ
كان هذان المطلبان يقدمان من وقت لآخر من بغداد لقادة الكويتِ وكان هؤلاء القادة يحاولون تجنب هذه الادعاءات مفضلين الحوار لحل هذه القضيةِ
ولم تميز العلاقات العراقية - الكويتية التي كانت تتسم بالمد والجزر الثقة والرفق بسبب ادعاءات العراق بالكويت التي لم تختف أبداِ ولكن هذه الادعاءات كتمت في حقبة الحرب العراقية - الإيرانية عندما احتاجت بغداد بشدة الكويت بصفتها الممول الرئيسي وممر النقل العامل بخدمتها بنشاطِ
وكانت الكويت في هذا الوقت البوابة الرئيسية التي تصل عبرها الى العراق الأسلحة والمهمات والذخائر والمواد الغذائية والبضائع الأخرى وتوجه عبرها الصادرات النفطية العراقية الكبيرة الى الخارج، بعد أن أغلق شط العرب وكان من غير الممكن الاستغناء عن موانئ الكويتِ
وبدا أن التغييرات نحو الأحسن حصلت بفارغ الصبر في العلاقات العراقية - الكويتيةِ ولكن بعد أقل من سنتين على وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، عاد كل شيء الى ما كان عليه في الماضي القريب: استخدم العراق من جديد سياسة الضغط على الكويتِ
لم يجر الضغط هذه المرة على المسائل الإقليمية، قدر تعلقه بمسائل المال والنفطِ فقد خرجت بغداد من الحرب ضد إيران مثخنة بديون خارجية كبيرة مقسمة بالتساوي: 40 مليار دولار للدول العربية ونفس المبلغ تقريبا لغير العربية، الغربية بشكل خاصِ وظنوا في بغداد بأن على العرب إسقاط ديونهم، آخذين في نظر الاعتبار الضحايا البشرية والمادية التي تكبدها العراق الذي لم يكن يدافع عن نفسه فحسب، بل عن العالم العربي وبالمقام الأول عن بلدان الخليج من 'خطر خميني'ِ وسلكت المملكة العربية السعودية على هذا النحو، إلا أن البلدان العربية الأخرى لم تستعجل في حذوهاِ ويبدو أنه كانت للكويت حججها بعدم إلغاء ديون العراق ببساطة، آخذة بنظر الاعتبار عدم رغبة العراق العنيدة في ترسيم الحدود معها وحل هذه القضية نهائياِ
وكان هذا 'التمرد' يثير ضجرا كبيرا في بغداد التي اعتبرت الديون ليست سوى معوناتِ وأخبرت الصحافة بأن صدام حسين طالب في مايو 1990 خلال مؤتمر القمة العربية الكويت ب 12 بليون دولارِ غير أن الكويتيين لم يستعجلوا في فتح صرتهمِ وبعد مرور شهر واحد زار نائب رئيس وزراء العراق سعدون حمادي الكويتِ وكما يؤكدون أدهش كثيرا مضيفيه عندما عرض عليهم، كبرهان على قدرتهم بالتضحية المالية بيسر، قائمة طويلة بممتلكات الكويت الخارجيةِ وحسب بعض المعلومات وافقت الكويت على تقديم 500 مليون دولار فقط وليس دفعة واحدة، بل خلال ثلاث سنواتِ وقدروا في بغداد العرض الكويتي كإهانة كبيرةِ
يرتبط التناقض بين العراق وبعض بلدان الخليج بأسعار النفط وكمية استخراجهِ وكان العراق كبلد منتج للنفط متورطا في الديون وبحاجة الى موارد مالية كبيرة في آن واحدِ لذلك اهتم وبشكل طبيعي بأسعار النفط ورفعها الى حدها الأقصى في السوق العالميةِ
لكن الأسعار انخفضت في النصف الأول من عام 1990 بنسبة 30 % ووصل سعر البرميل الى 14 دولاراِ وألقت بغداد الذنب على الكويت والإمارات العربية، مؤكدين عدم التزامهما بحصصهما في استخراج النفط مما أدى الى إغراق السوق العالمية بالنفطِ
وأظهر صدام حسين انزعاجه في هذا الصدد لأول مرة في نهاية مايو 1990 في بغداد خلال القمة العربية التي عقدت هناك لمناقشة مسألة هجرة اليهود السوفيت الى إسرائيلِ غير أن هدف اللقاء الآخر والأكثر أهمية بالنسبة لبغداد انحصر بلا شك في إعطاء إشارة عدم الارتياح الى أولئك العرب الذين لم يسارعوا في مد يد العون إليهاِ واتهمهم علنا بالحرب المالية ضد العراق - وأشار الرئيس العراقي الى أنه لا ينوي احتمال هذا الظرفِ وكان صريحا بشكل أكبر في الأروقة حيث طالب بتقديم 30 مليار دولار تقريبا الى العراق فوراِ وضغطت بغداد مجددا في 16 يوليو في إطار جامعة الدول العربية عندما نشرت رسالة وزير الخارجية طارق عزيز الى الأمين العام للجامعة الشاذلي القليبي التي اتهم فيها الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة بمخالفة اتفاقات منظمة البلدان المصدرة للبترول وانتهاكها لاتفاقات حصص استخراج النفط واتخاذ سياسة إغراق السوق العالمية للنفط بغية تخفيض أسعار النفطِ زد على ذلك اتهمت بغداد الكويت كذلك ب 'سرقة' النفط العراقي بمبلغ يعادل 4ِ2 مليار دولارِ ودار الحديث في الرسالة على أن عاملي النفط الكويتيين يستخدمون طراسق الحفر المائل في قطاعهم الخاص للرميلة لامتصاص النفط العراقي، كما زعمِ وألقى طارق عزيز نفسه بعد ساعات في تونس وخلال عقد دورة الوزراء لجامعة الدول العربية خطابا قاسيا تطرق فيه الى الموضوع نفسه، مضفيا على الجدال التقني -التجاري طابعا سياسيا متهما الكويت من جديد ب 'الحرب الاقتصادية' وحياكة 'الدسائس ' ضد العراقِ
وأثار خطاب صدام حسين الذي ألقاه في بغداد في 17 يوليو بمناسبة الذكرى ال 22 لمجيء حزب البعث إلى الحكم في العراق توترا وانفعالا أكبرِ وكان ذلك في جوهر الأمر هجمة مكشوفة على رؤساء بلدان الخليج الذين كما زعم 'يحاولون تقويض العراق بعد انتصاره العسكري' و 'بدلا من مكافأة العراق الذي ضحى بخيرة شبابه من أجل الدفاع عن قصورهم وثرواتهم يعدون له الضرر الهائل' و 'يغرزون السكين المسموم في ظهره'ِ وعنف بالأخص في هذا الخطاب الكويت والإمارات العربية، موجها تهديده لهما بشكل مباشر: 'إن رفع أصواتنا ضد الشر ليس الوسيلة الأخيرة إطلاقا، فإذا استمر الشر سنجد الوسائل الفاعلة التي ستضع الأمور في موضعها الصحيح'!ِ
تبع ذلك إيقاظ ضجة أخرى أحدثتها بغداد في دورة الجامعة العربية بخصوص نقل المركز الجمركي الحدودي الكويتيِ وبالرغم من أن هذا المركز بعد نقله بقي ضمن الأراضي الكويتية، إلا أن طارق عزيز اتهم الكويت في اجتماعات جامعة الدول العربية وفي أحاديثه الصحافية بارتكاب مخالفات إقليميةِ واستخدمت الدعاية العراقية هذه الحالة لغرض مضاعفة التوتر المعادي للكويتِ غير أن الكويت لم تهتز خوفاِ واكتفت بإرسال مبعوثيها الى البلدان العربية لشرح موقفها وتوضيح الحالة وأعربت في رسالة الى جامعة الدول العربية عن دهشتها من التأكيدات 'التي لا أساس لها من جانب العراق الشقيق'ِ
واتخذت دورة منظمة البلدان المصدرة للبترول المنعقدة في جنيف في 25 - 27 يوليو 1990 قرارا برفع أسعار النفط الى 21 دولارا للبرميل لغرض مساعدة العراق وإيرانِوالتزمت الكويت والإمارات العربية بمراعاة حصص إنتاج النفط المخصصة لهاِ غير أن هذا لم يخفض بيانات بغداد الضارية تجاه هذين البلدين في أيام يوليو الأخيرةِ

لماذا هذا الكتاب؟

في عامي 1990 - 1991 كنت نائبا لوزير خارجية الاتحاد السوفيتيِ وكانت تدخل في دائرة عملي الى جانب مسائل كثيرة، علاقات الاتحاد السوفيتي مع بلدان الشرق الأدنى والأوسطِ لذلك كنت منجرا منذ بداية أزمة الكويت التي سببها استيلاء العراق على الكويت، حتى نهايتها، عندما أخضعت بغداد لمطالب الأمم المتحدة بعد هزيمتها الساحقة من قوى التحالف المناوئ للعراقِ

والكتاب الذي أقدمه عبارة عن حديث شاهد عيان ومشارك في الأحداث بشكل مباشرِ واتفق أن أعمل على تحديد موقفنا من مختلف نواحي الأزمة وشاركت في المحادثات التي تمت مع العراق وتركيا وإيران والبلدان العربية ودول أخرى، خاصة التي كانت عضوا في مجلس الأمن وقتذاكِ
وكنت أجري الاتصالات والمحادثات بنفسي وفي حالات أخرى أجدها وراء طاولة المحادثات التي يجريها رئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف أو وزير الخارجية أدوارد شيفرنادزه، وبعد إقالته الكساندر بيسميرتنيخِ وكانت مشاركتي تتحدد أحيانا بإعداد الوثائق المناسبة ولهذا السبب أو ذاك كانت بعض الأمور تسير من خلالي أو بالقرب منيِ
وأظن بأني لا أجافي الحقيقة إن قلت، بأن أزمة الكويت تعتبر واحدة من أهم الدروس التي حملتها الحياة والعلاقات الدوليةِ وبالرغم من الوقت الذي مضى عليها، إلا أن الكثير من صفحاتها لم تطو بعدِ وحملت عواقبها سوية معنا الى القرن ال 21 وخاصة في نوع نظام العقوبات الخاصة المفروضة على العراق التي تؤثر بشكل حساس على الشعب العراقي والحالة السياسية العامة في المنطقة وعلى إمكانات البلدان الأخرى بما فيها روسيا في تطوير العلاقات مع العراقِ وكانت محاولات بغداد الرامية الى التحرر من المراقبة بلا إذن، تؤدي أكثر من مرة الى تفاقم حاد للحالة وتوصل الى ضربات جديدة للولايات المتحدة ضد العراقِ ولا تنتهي في الوقت نفسه، المعارك الدبلوماسية حول الخط المستقبلي لمجلس الأمن الدولي حيال العراقِ وعدم رغبة بغداد في تنفيذ بعض قراراتهِ كل ذلك يزيد من احتمالات تفاقم الحالة من جديد في هذه المنطقةِ
ومن هنا تبرز أهمية معرفة الماضي بشكل موثق وتفصيلي، خاصة تلك الواقعة التي تطورت فيها الأحداث في سير الأزمة الكويتيةِ وما هي قرارات مجلس الأمن ولماذا اتخذت وبما كانت تسترشد فيه موسكو في سياستها وتصرفاتهاِ
ولدت عندي فكرة تأليف الكتاب عن أزمة الكويت في كندا حيث عملت سفيرا لروسيا في الفترة 1992 - 1998 ِ وتسنى لي هناك التعرف على الكثير من المنشورات الخاصة بهذه الأزمة والتي ظهرت في الغرب في الحال أو بعد مرور عدة سنواتِ وفي غضون ذلك لاحظت أن الكثير مما قيل عن موقف الاتحاد السوفيتي كان عرضيا وغير موضوعيِ ويمكننا أن نرى في مذكرات إنسان مطلع كجيمس بيكر الذي كان يشغل أثناء الأزمة منصب وزير خارجية الولايات المتحدة تفسيرات سيئة لأعمال وتعليلات موسكوِ وما أن عدت الى الوطن، حتى قررت التحدث بنفسي عن الأزمة وإظهارها 'من زاوية موسكو'، أو بالأدق كيف كانت تظهر لأولئك الذين انشغلوا وعملوا بها في وزارة الخارجية السوفيتيةِ
وترسخت نواياي عندما اقتنعت بأن ما نشر عن أزمة الكويت لم يظهر في بلدنا لا كأبحاث ولا كمذكرات ( لا أتكلم هنا عن مقالات المجاملات )ِ أما جدول شواهد العيان الذين ينبغي أن يكشفوا شهادتهم، فقصير جدا حتى الآنِ
نجد مقالات يفغيني بريماكوف المنشورة في أربعة أعداد لجريدة 'برافدا' في عام 1991 بعنوان 'الحرب التي من الممكن ألا تقع'ِ وبضع صفحات مكرسة عن الأزمة في كتاب لأدوارد شيفرنادزه 'خياري'ِ وفي مذكرات مساعد رئيس الاتحاد السوفيتي أ ِ تشيرنايفِ ومن الممكن أن شيئا ما لم يقع في مجال بصريِ ومع ذلك فأن ذلك لن يغير الصورة العامة لما ظهرِ
وكنت أؤلف كتابي غير معتمد على ما تبقى من ذاكرتي فحسب، بل استندت إلى كل المحادثات والمناقشات التي أجريتها بنفسي أو التي كنت أحضرهاِ وساعدتني اللقاءات والمحادثات والمؤتمرات الصحافية التي كانت تنشر في ذلك الوقت في 'مختبر وزارة الخارجية السوفيتية' والتي وجدت فيها تصريحاتي الخاصة التي سأشير إليها في بطن الكتابِ ولابد أن أبدي تقديري للعون الكبير الذي قدمه زميلي في المدرسة وفي معهد العلاقات الدولية وفي العمل المشترك في نيويورك ف ِ لوزينسكي الذي أحال لي مجموعة كاملة لما نشرته الصحافة الأميركية في ذلك الوقت التي عكست الكيفية التي هضمت فيها الولايات المتحدة موقف وخطوات موسكو في غضون أزمة الكويت وكيف كانت تؤثر على الجو السياسي حول الأزمة وفي سيرهاِ
وأود أن أنتهز الفرصة لأشكر من كل قلبي مستعربي وزارة الخارجية الذين كانوا لي سندا متينا خلال الأزمةِ وهم مجموعة ساطعة من الأشخاص البارزين والخبراء والدبلوماسيين الأمناء سنأتي على ذكر أسمائهم عبر صفحات الكتابِ
واضطررت في بعض الحالات لغرض إكمال الصورة، ذكر حوادث غير متعلقة مباشرة بعملي، مشخصا إياها كباحث على الأرجح مستندا على وثائق الخارجية الروسية المتوفرة لديِ
وبطبيعة الحال، لدي موقفي الخاص من الأحداث، وسوف لا أخفيه عن القارئِ ومن الممكن أن تقديراتي لا تعجب أحدا ما، وهذا مفهوم، كون مختلف القوى السياسية في بلدنا في حقبة الأزمة كانت تحمل تصورات مختلفة عما حدثِ والأهم استخلاص العبر والدروس اللازمة وخاصة للقائمين على السياسة أو الذين باستطاعتهم التأثير عليهاِ وآمل أن يساعد الكتاب في تحقيق ذلكِ


خواص الخلفية التاريخية للأزمة

كان العراق في حدوده القائمة المفصلة من الإنكليز بعد الحرب العالمية الأولى يتكون من ثلاث ولايات تابعة للامبراطورية العثمانية السابقةِ وأصبح دولة مستقلة في عام 1932 بعد انتهاء الانتداب الذي حصلت إنكلترا عليه من عصبة الأمم بصفتها أرضا معادية سابقاِ وكما هو معلوم فان تركيا حاربت إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ودفعت غاليا ثمن ذلك، إذ أعطت للمنتصرين، إنكلترا وفرنسا قطعا كبيرة من أراضيهاِ وتبقى خريطة الشرق الأوسط والأدنى إلى اليوم، في درجة كبيرة، نتاج إعادة تنظيم الأراضي التي قامت به لندن وباريسِ
وحصلت الكويت على الاستقلال بعد 30 عاما، في عام 1961، عندما اضطر الإنكليز أنفسهم للتخلي عن المحمية التي فرضوها على مشايخ البلاد في عام 1899 بواسطة اتفاقية سرية مع حاكمهاِ وكانت الكويت تنتسب في ذلك الوقت الى الإمبراطورية العثمانيةِ غير أن الأتراك، خلافا للمحافظات التي كونت العراق، لم يحتلوها ولم يحكموها عمليا، الأمر الذي سمح للحكام المحليين للسلالة الملكية لآل الصباح تولي حكم هذا الجزء من الجزيرة العربية في ظروف حكم ذاتي نسبيِ وإذ كانت الكويت تتبع لإنكلترا أكثر منها لتركيا، فقد وجدت نفسها في الحرب العالمية الأولى الى جانب الحلفاءِ وهذا الموقف ساعد على أن تكون مصائر الكويت والعراق بعد الحرب مختلفةِ
فقد توصلت لندن والأستانة في عام 1913 الى اتفاقية حول وضع الكويت الخاص وكذلك حول حدودهاِ غير أن الاتفاقية لم تبرم بسبب بداية اندلاع الحربِ وفي عام 1922 أنهى الإنكليز رسميا تخطيط الحدود بين العراق والكويت والمملكة العربية السعوديةِ ونظم لهذا الغرض مثال لمؤتمر دوليِ واستخدم مصطلح 'مثال' لأن أيا من الدول العربية الثلاث المذكورة لم يكن مستقلا بعدِ وظهرت بسبب ذلك منطقة الحياد القائمة حتى اليوم وهي منطقة تقع ضمن اختصاص الكويت والمملكة العربية السعوديةِ
لا أريد كحقوقي أو مؤرخ أو جيوغرافي أو اختصاصي في علم الإثنوغرافيا أن أحكم من وجهة نظر هذه العلوم عن أفضليات ونواقص خطوط الحدود التي رسمت في نوفمبر 1922 بيد السير بيرسي كوكس بالقلم الأحمر على الخريطةِ وكان كوكس مندوبا ساميا إنكليزيا في بغداد والشخص الرئيسي المؤثر في المؤتمر المذكورِ أريد أن أشير فقط الى أنهم لم يفترضوا في ذلك الوقت وجود ثروات نفطية مخفية تحت الرمال ولم يدر الحديث عن تقاسم هذه الثرواتِ فالواقعة الرئيسية انحصرت في أن العربية السعودية ومن ثم العراق وأخيرا الكويت حصلت على الاستقلال مع هذه الحدود بالذاتِ وقبلت هذه الحدود في هيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والمنظمات الدولية الأخرىِ حيث أخذت على عاتقها، عدا الالتزامات الأخرى التعهد بعدم استخدام القوة لحل المسائل المتنازع عليهاِ ولكن المنازعات بدأت فورا تقريباِ وتجلى ذلك بشكل رئيسي في ادعاءات بغدادِ فقد ظهرت في الثلاثينات رواية 'حقوق العراق التاريخية' في الكويت، أي في أراضي البلد كلهاِ وبشكل خاص كانت الادعاءات تبنى على أساس أن العراق والكويت جزءان من الإمبراطورية العثمانية وأن الكويت كانت لوقت ما ضمن ولاية البصرة (المدينة الثانية في العراق من حيث الحجم)ِ واستنتج من هنا أنه عندما ينصرف الإنكليز من الكويت يجب أن تعاد للتوحد مع العراقِ وكانت هذه الادعاءات تسمع من أعلى المقامات في العراق وخاصة من قبل الملك غازي في عام 1937 الذي دعا حتى الى ضم الكويت وبدأ لتحقيق هذا الهدف تحشيد القوات العراقية على الحدود مع الكويتِ غير أن موت غازي وضع حدا لهذه التدابير ولم يسمح الإنكليز بتحقيق ذلكِ
وبدأت الانفعالات الجديدة في العراق بصدد الكويت عندما حصلت الكويت على الاستقلال في 19 يونيو 1961 ِ واستعجل الجنرال قاسم الذي كان يحكم العراق في ذلك الوقت في إعلان الكويت جزءا من العراقِ وثمة روايات مختلفة حول تلك الواقعة، حيث بدأ نقل القوات العراقية الى الحدودِ ولكن لندن أعادت، بناء على طلب من حكومة الكويت، قواتها فورا إلى أراضيهاِ وتم تبديلها بعد مرور بعض الوقت بتشكيلة من 3 آلاف شخص كونتها جامعة الدول العربية واضطر قاسم الى التراجعِ