السبت، 4 يونيو 2011

الصراع على مخطوطة مصحف عثمان بين الروس والمسلمين 3

بأمر من الخليفة أبو بكر الصديق ( رض ) تولى زيد بن ثابت المتوفى في 673 - 674 م تجميع المدون من القرآن ، وبتكليف من الخليفة عثمان بن عفان ( رض ) قام وثلاثة آخرون بترتيب سور المصحف. وفي عام 651 [1] ظهر أول مصحف رسمي مكتمل وأتلفت كل المصاحف الأخرى عداه بأمر من الخليفة عثمان ( رض ).

ووضعت عن المصحف الذي خطه زيد بن ثابت ثلاث نسخ أرسلت الى دمشق والكوفة والبصرة ( ثمة رواية أخرى تقول أنه كانت هناك خمس أو سبع نسخ أرسلت الى مكة واليمن والبحرين ، وأن النسخ الأصلية ظلت لدى الخليفة في المدينة المنورة. وكل هذه النسخ سميت مصحف عثمان ).

وصول المخطوطة الى أوزبكستان

غير أن واحدة من هذه المخطوطات استقرت في عاصمة أوزبكستان طشقند. وهذا الأثر الفريد هو أقدم مخطوطة للقرآن مدونة على الرق بخط كوفي.

ويعتقد الخبراء أن تاريخها يعود للقرن الأول للهجرة وهي المخطوطة الوحيدة الكاملة للقرآن في الساحة السوفيتية السابقة. ولأمد طويل كانت تعتبر النسخة الأولى من القرآن التي وضعت في عهد الخليفة عثمان ( رض ) ، واعتبرها المسلمون في الاتحاد السوفيتي السابق وخارجه مرجعهم الرئيسي. وقبل انضمام آسيا الوسطى الى روسيا كان مصحف عثمان محفوظا في مدرسة الحاج أحرار بسمرقند. وساد في سمرقند وبخارى وسواهما من مدن تركستان رأي مفاده أن الفقيه المعروف أبو بكر الكفال المتوفى والمدفون في طشقند في عام 976 م ، نقل المصحف من بغداد الى سمرقند ، وأن ورثته تناقلوه جيلا بعد جيل حتى وصل الى واحد من أحفاد أحفاده وهو الحاج أحرار الذي شيد مدرسة وحفظ فيها القرآن [2] .

وثمة رواية أخرى تقول أن أحد مريدي الحاج أحرار عرج ، أثناء عودته من الحج على استنبول حيث عالج السلطان المصاب بمرض عضال وشفاه ، فأهداه السلطان المصحف [3]. ولكن الافتراض الأرجح هو أن تيمور لنك هو الذي جلب المصحف الى مكتبته الشهيرة في سمرقند والتي أتلفت أثناء الحروب بين ورثته ، ولم تسلم منها الى مخطوطة المصحف [4] .

الاستحواذ على المصحف من الروس

وطوال 400 سنة تقريبا ظل مصحف عثمان محفوظا في سمرقند. وبعد دخول القوات الروسية المدينة في عام 1868 قرر الموظفون القيصريون نقله الى بطرسبورغ. وحال رجال الدين المسلمون نقل القرآن الى بخارى ، ولكن القائد العسكري في مقاطعة زارافاشان الجنرال أبراموف ، حينما سمع بذلك ، أمر " باتخاذ تدابير لكي لا يفلت هذا الأثر العلمي القيم " وكلف العميد سيروف بمتابعة الموضوع [5].

وانتهى الأمر بأن أئمة مساجد الحاج أحرار عرضوا على العميد سيروف إعطائه المصحف مقابل 125 روبلا.

اشترى الجنرال أبراموف المخطوطة لقاء مائة روبل فقط وقدمه هدية الى حاكم تركستان العسكري كاوفمان الذي سارع بإرسالها الى بطرسبورغ مرفقة برسالة خاصة الى وزير المعارف بتاريخ 24 أكتوبر 1869. ووضح في الرسالة ملابسات الحصول على المخطوطة وأرفق بها مذكرة عن منشئها. وهكذا أخذت المخطوطة تحفظ في المكتبة العامة في بطرسبورغ ، التي أصبحت منذ ذلك الحين محجا لمسلمي روسيا والبلدان الأخرى الذين يزورون المدينة.

إصدار نسخ من المصحف

ووضع عالم الإسلاميات الروسي شيبونين توصيفا لهذه المخطوطة باللغة الروسية [6].

وفي عام 1895 طبعت ألفا نسخة من إحدى صفحات مصحف عثمان. وفي سنة 1905 أصدر الناشر الإسلامي الياس بن أحمد شاه صورا لسورة " يس ". وفي السنة نفسها أصدر الناشر بيساريف نسخة كاملة طبق الأصل عن مصحف عثمان ، مما جعله في متناول أوسع أوساط الباحثين.

الصراع من أجل المصحف

غير أن المسلمين ظلوا طوال هذه السنين يأملون في استعادة المصحف.

وبعد ثورة فبراير 1917 حاول الجنود المسلمون من فوج بريوبراجينسكي الحصول عنوة على المصحف ، ولكن جرى تفريقهم بإيعاز من الحكومة المؤقتة [7]. ووجه المؤتمر الإسلامي لدائرة بتروغراد المنعقد بعد ثورة أكتوبر 1917 نداء الى مفوضية الشعب لشؤون القوميات يطلب فيه استعادة مصحف عثمان. وقد وافق مجلس مفوضي الشعب ( الوزراء ) على هذا الطلب ، وحرر رسالة بهذا الخصوص الى مفوض الشعب ( وزير ) لشؤون التعليم لوناتشارسكي.

عودة المصحف الى المسلمين

وفي ديسمبر 1917 سلم مصحف عثمان الى المسلمين ونقل الى مدينة أوفا البشكيرية حيث ظل حتى 25 يوليو 1923 . وأصدرت اللجنة التنفيذية المركزية العليا قرارا بتسليم مصحف عثمان الى تركستان ، حيث كانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها هناك. وتوجهت الى أوفا لجنة خاصة تضم ثلاثة من رجال الدين المسلمين تولت نقل المصحف الى طشقند في عربة قطار خاصة برفقة حرس وسلمته الى الإدارة الدينية في سيرداريا التي كانت تتخذ من مبنى جامع الحاج أحرار مقرا لها.

ومنذ يناير 1926 عرض مصحف عثمان في غرفة خاصة مجهزة بمبنى متحف أوزبكستان باعتباره أقرا تاريخيا ليطلع عليه الزوار. غير أن السلطات الستالينية قررت حفظه بخزانة تقع في متحف تاريخ شعوب أوزبكستان بحجة وقايته.

إخراج المصحف من الخزانة

وفي أكتوبر 1976 طالب المشاركون في المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان رؤية المصحف وإخراجه من الخزانة.

وبعد يوم واحد وفي 8 أكتوبر حضر قادة مسلمون مرموقون من الأردن وتونس واليمن والهند مراسيم جرى خلالها إخراج مصحف عثمان من الخزانة ووضعه على طاولة خاصة وسط القاعة التي سادها صوت مطبق. ثم قام المفتي ضياء الدين بن ايشان باباخان والذي كان آنذاك رئيسا للإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان ، بتلاوة سورة الفاتحة إيذانا بفتح المصحف الشريف. وبعد ذلك قلبه صفحة أثر أخرى وأخذ العلماء المسلمون بقراءة آيات من الذكر الحكيم.

وأنهى هذا اليوم تاريخ طويل لصراع المسلمين من أجل الحفاظ على أقدم أثر إسلامي وأنفس المخطوطات وأجلها وأكثرها استثنائية وأكبر دليل على العلاقة بين المسلمين وصلاتهم الحية من صدر الإسلام حتى العصر الحديث.




[1] في بعض مصادر عام 25 الهجري ( 647 م ) راجع : Brockelmann . Geschichte der arabischen Literatur. Weimar - Berlin . 1898 / Bd . I , S . 35.

[2] راجع : المرجاني . كتاب الفوائد . قازان . 1879 ، ص 21 .

[3] شيبونين . القرآن الكوفي . " مخطوطات القسم الشرقي للجمعية الآثارية للإمبراطورية الروسية " . المجلد السادس ، 1891 ، ص 71 - 72 .

[4] المصدر السابق ، ص 72 .

[5] ل . كون . مصحف عثمان . " توركيستانسكيه فيديموستي " ، 1870 ، العدد الأول .

[6] كان من بين دارسي الإسلاميات ، فضلا عن العلماء ، عدد من الدبلوماسيين المستعربين الذين واصلوا الأبحاث العلمية وهم في الخارج. وكان بينهم شيبونين الذي وضع دراسة رائدة عن خط مصحف عثمان في عام 1891. وحينما كان قنصلا في القاهرة وضع دراسة مهمة مماثلة لنسخة أخرى من القرآن في عام 1902.

[7] مجلة " دروجبا نارودوف " ، 1957 ، العدد 11 ، ص 13 .