الثلاثاء، 7 يونيو 2011

من يلتسين الى بوتين.. الحرب حتى بداية الحرب

اصبحت الحرب الشيشانية سلاح الدعاية الاسود PR للرئيس الروسي الجديد الذي يبدو ان اسمه معروف.
قلائل سوف يصرون على انكار ان الحرب القوقازية الجديدة بدأت كحرب 'مشروطة بمعاهدة' ولا ينكر حتى الطاغوت المالي بوريس بيريزوفسكي القريب من محيط الرئيسين السابق والتالي انه كانت لديه اتصالات مع قادة الشيشان على ابواب التدخل الشيشاني غير المسؤول في داغستانِ غير ان عقد المعاهدة مسألة، وتنفيذها مسألة اخرى بالمرة وهناك من يقول ان السياسيين الذين يتلاعب بهم رجال المال في موسكو قد خدعوا القادة الميدانيين الشيشان بكل بساطة، وانهم اتفقوا على افتعال القتال في داغستان وخوض الحرب لبعض الوقت ومن ثم الانسحاب ليزيحوا الحكومة السابقة وينصبوا فلاديمير بوتين ويعطوا الجيش فرصة استعادة هيبته، بعد الهزيمة في الحرب السابقة، ويمنحوا الحكومة الجديدة ورئيسها شعبية اكبرِ ولكن، من الواضح انهم في موسكو لم يتفقوا مع القادة الميدانيين على حرب واسعة النطاق كالتي حدثت كما انه بات من المستحيل المحافظة على طابع ثابت لأية معاهدة من هذا النوع بعد ان اندفع عشرات الآلاف من الجنود الروس الى الاراضي الشيشانيةِ ومن الصعب الاتفاق مع كل جنرال روسي وقائد شيشاني على حدةِ لقد استطاعوا في نوفمبر ايقاف الحرب لكن الجنرالات هددوا باستقالة جماعية، الامر الذي كان سيحرج الحكومة ويقلل فرص فوز حزب الكرملين في انتخابات 19 ديسمبر.
الشهرة والاوسمة والمال
وبعد ان فاز 'الدب' بالصيد البرلماني الثمين حاول ايقاف الحرب مجددا بابعاد اهم الجنرالات في الجبهة، تمهيدا لتقسيم مناطق النفوذ في الشيشانِِ ولكنهم فشلوا في ذلك.
واذا اصبح القادة الشيشان ضحايا الخداع الاول فيبدو ان الجنرالات الروس سيكونون ضحية الخداع الثاني، وفي حقيقة الامر كانت خطتهم في البداية تقول: نذهب لقتل بعضهم واذا كسبنا سنحصل على الشهرة والاوسمة والمالِِ واذا خسرنا فسيسحبنا الساسة من الشيشان وسنلقي عليهم مسؤولية كل ما حصل غير ان الجنرالات اخطأوا، ولن يسحبهم احد من الشيشان هذه المرة.
وثمة في تصريحات العسكريين نبرات تهديد من طراز 'لن نسمح بايقافنا ولن نسمح بالصلح'ِِِ الخ وهذه محاولات لتجميل سمعتهم الضائعة منذ الحرب الاولى فالجميع يدركون بانهم سينسحبون ما ان تصدر الاوامر من القائد العام.
ولا يحاول الساسة ايقاف الحرب ومازال الجنرالات يكررون: لن نسمح بهذا او ذاكِِ لماذا؟ اليس من الاجدر تفسير هذه التصريحات بمعناها العسكي؟ الا تخفي تلويحا بالطلب: متى ستبدأون في سحبنا من هنا؟
الثأر القوقازي
ويبدو انهم خدعوا الجنرالات ايضاِِ ارسلوهم الى الشيشان ولن يسحبوهم ابداِِ لقد فعلوا فعلتهم وغرقوا في بحر الدماء والثأر القوقازي، دعهم هناك يحاربون ويقتلون حتى النهايةِ وعلى هذا الصعيد تتوالى تصريحات الرئيس بالوكالة: 'الحرب في الشيشان شارفت على النهايةِِ ستبقى هناك فرقة واحدة تابعة لوزارة الداخلية للحفاظ على الامنِِ غير ان هذا الكلام بعيد جدا عن الواقع، فما ان يبقوا هذه الفرقة حتى يلتهمها الشيشان في ليلة واحدة ويرجع كل شيء الى بدايته وكأن الحرب تسير نحو بداية الحرب!.
الحرب الدعائية ونوعها الجديد PR غير مدفوعة الاجر بالدولارات بل بدماء الجنود والمدنيين وهي بالمناسبة ارخص لاصحابها، غير انهم نسوا شيئا واحدا وهو ان الجيش قابل للتكيف مع هذه الحرب الدعائية لبعض الوقت ولكن ليس لكل الوقتِ فاذا كان من الواجب حل المهام الدعائية باساليب ووسائل عسكرية فيعني ذلك ان المهام العسكرية نفسها ستفشل بلا شكِ فالحرب ليست اسلوبا لحل المشاكل السياسية الداخلية، وعندما تبدأ الاعمال العسكرية لاهداف سياسية داخلية سينتهي ذلك حتما الى الهزيمة وانحلال الجيش.
بوتين يكابرِِ ويفشل!
في عام 1996 تسنى لهم الافلات من الحرب والنجاة بأرواحهمِ وعلى الرغم من الكثير من العار، الا ان بوريس يلتسين تحول الى صانع سلام وحصلت الصحافة التي كانت تفضح هذه الحرب على فرصة لتمجيده على نطاق واسعِ ولكن لا احد يستطيع ان يلعب هذه اللعبة مرة اخرى ومعروفة عواقب النزول في النهر مرتين لاسباب غير غامضة: اولا، لن تستطيع الصحافة التي يسيطر عليها الكرملين بالكامل تكرار حملتها السابقة دون ان تفقد سمعتها تماما، ثانيا، بوتين ليس يلتسين، حيث كانت للاخير مساحة كافية للمناورةِ بينما توجد ورقة واحدة لبوتين يكرر استخدامها بلا ضجر وهي وعوده ب'القضاء على الارهابيين حتى في التواليت' (تصريح شهير لبوتين!)ِ في هذا التصريح تكمن كل ايديولوجية بوتين وفي الوقت نفسه سر كل شعبيتهِِ لذلك ليس لديه المتسع للتراجع ولن يصدر الاوامر بالانسحاب من الشيشان، واذا فعلها فيجب ان يترك الكرملين فورا.
ان استقالة يلتسين قبل انتهاء فترة ولايته تدل ـ ابرز ما تدل ـ على ان الحالة في الشيشان سيئة جدا في الحقيقة وحتى الانتصار الصعب في مثل هذه الحروب غير المتكافئة هو هزيمة حتى بالمفهوم العسكري البحت.
الاسطورة
ان الكذب الذي تمارسه الشخصيات الاولى في الدولة في روسيا الراهنة لم يسبق له مثيلِ ومع ذلك يستشهدون بتصريحات بوتين باستحسان، ويتظاهرون بأنهم يصدقون.
وفي الواقع ان التأييد الشعبي للحرب مجرد اسطورة دعائية كتلك الاسطورة التي تحكي عن الانتصارات العظمى في الجبهة.
الاقتصاد: التدهور والاحتكار
غير ان ثمة مسألة لا يمكنهم السيطرة عليها وهي ان الحرب في الشيشان هي جزء من النظام العام وفشل الحملة سيفاقم التدهور الاقتصاديِِ والعامل الاقتصادي سيقترب حتما الى الاختناق الذي حصل في عام 1998 ـ 1999 وستبرز مشاكل جديدة بفضل تخفيض قيمة العملة الوطنية وتقليص الاستيراد وانعدام الاستثماراتِ ولكن هذه المشاكل طمرها الارتفاع في اسعار النفط الامر الذي ساعد على المحافظة على بيانات احصائية سليمة.
وتبقى سلطة الكرملين كبيرة من الناحية الشكلية فحسب، وطالما لم يكتل بوتين قواه ويعزز جهازه فستكون سلطته اسميةِ وما لم يتم اعادة السيطرة على الشركات الكبرى مثل 'غاز بروم' و'سيبنفط' و'منظومة الكهرباء الموحدة' وغيرها من اوكار الطغمة المالية لن تتوفر اموال للكرملين لكي ينشئ 'الدولة القوية' التي وعد بها.
وسياسية بوتين تجاه الطغمة المالية تحتاج الى وقفة خاصة في الحلقة القادمة।

هل تحصل المواجهة بين بوتين والطغمة المالية؟


لا يمكن انتظار اعمال ما من الرئيس الروسي بالوكالة فلاديمير بوتين ضد الطغمة الماليةِ ليس لانه شاكر لها لمساعدتها له في الوصول إلى الكرملين، بل لانه لن يتخلى عن فكرة ان يصبح حاكما مطلقا في روسياِ ومثل هذا الحاكم سيحتاج إلى انتصارات حقيقية وليست وهمية وإلى جيش قوي غير منحل، و'ابطال' حقيقيينِ وبما ان كل هذا غير موجود فان شعبيته يمكن ان تتحول 'بالوكالة' ايضا بدون دعايةِ لذلك فان بوتين لن يستغني عن 'آلة الكذب' التي خلقها بوريس بيريزوفسكي والتي يسيطر عليها الآن، وبواسطتها يفرض سيطرته على المحافظين الذين يعرفون كيفية تنظيم النتائج 'الصحيحة' في الانتخاباتِ وسيبقى بوتين رهينة لهم حتى اذا اصبح رئيسا بلا وكالة.
كما ان الجهاز البيروقراطي الجبار المبني خلال عشرات السنين صار بيدهم ولا يمتلكه بوتينِ وسيظل بحاجة إلى كادر امين كالذي كان سلفه بوريس يلتسين يحتكم ويستند عليه مثل بيريزوفسكي واناتولي تشوبايس والكسندر فالوشين وغيرهمِ
لقد ركزت الصحافة الروسية المستقلة على ان نشر الروح العسكرية في المجتمع قد ينتهي باحلال دكتاتورية عسكريةِ غير انهم في الكرملين واثقون لسبب ما بان الاشخاص الذين يدورون قاذفة الكرة سيستطيعون السيطرة علىها وايقافها في اللحظة المناسبةِ ولماذا لا يسلمون بذلك الاحتمال، فهم سوية، مع الجنرالات، 'الابطال' وبوتين، سيكونون ضحاياها.
لا طواغيت مال!
وهكذا صرح كل رموز الطغمة المالية (عدا فلاديمير غوسينيسكي صاحب ميديا موست) بانهم سيؤيدون انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا للبلاد، ودار قبل ايام في الكرملين حوار متميز: أجاب احد المسؤولين في إدارة الرئيس عن سؤال يتعلق بدور الطغمة المالية في دعم بوتين قائلا: 'تقيسون الامور بمقولات عفا عليها الدهر، لا يوجد لدينا طواغيت مال في ذلك المعنى الموجود قبل سنة'.
وقد فسر احد المحللين هذا التصريح بانهيار العلاقة المبنية في أوائل التسعينات بين البيزنيس والسلطة والتي كانت تخدم الطرفينِ واذا انتهت - حسب الرأيين السابقين - فمن سيملأ الفراغ أو يبدله؟
من الممكن وضع حواجز بمؤسسة مشرعين قوية كما في الولايات المتحدة أو 'قيادة حكيمة' كما في الصين أو وزارات عملاقة كما في اليابان وتكون قواعد اللعبة بيد الرئيس والذين سيصبحون حاشيته.
وكانت تنتشر قبل انتخابات الدوما في 19 ديسمبر احاديث مغزاها كالاتي: سينتظرون نتائج الانتخابات ومن ثم سيضعون البيزنيس في خدمة فلاديمير بوتينِ ولكن البيزنيس الكبير كان ولايزال احكم وامتن من اية سلطة في روسيا، فقد بنى نفسه قبل الانتخابات واذا قرر ان يقوم بخطوة في دعم هذا او ذاك فسيقوم بها بناء على مصالحه وليس جراء ضغوط السلطة.
بوتين لا يحتاجهم!
وبعد اعياد الألفية قرر رجال الاعمال الروس وضع امكانياتهم المادية تحت تصرف الحملة الانتخابية لبوتينِ وصرح احد المقربين من الرئيس بالوكالة بان بوتين قال لهم: 'شكراِِ لدينا كل شيء ولانحتاج إلى شيء منكم'!
وحتى لو صدقت الرواية الاخيرة فان للسلطة الروسية اليوم ثلاثة مصادر محتملة للمصاريف الطارئة هي: وزارة حالات الطوارئ والميزانية الفدرالية ووزارة المواصلاتِ وهذه المصادر كانت دوما تعطي الاموال للاقاليم وحتى المنشآت الكبيرة واحيانا عن طريق الخدمات والتسهيلات بدون المخاطرة في اتهامها بالتبذير غير الهادفِ وفي الوقت نفسه تتمكن من سد عجز ميزانيتها على حساب منشآت وفروع اخرىِ مثلا: يزيدون اسعار الحديد أو حصص النفط أو الكحول وغير ذلك.
ويحاولون في هذه الحالة تصوير الامر وكأن العلاقة بين رجال الأعمال والسلطة مبنية على اساس ان بوتين غير مدين لاحد تقريبا.
تفادي التبعية المباشرة
وبطبيعة الحال يستمر الجميع بتقديم مواردهم المالية وخدماتهم التكنولوجية والسياسية والاعلامية إلى بوتين تعبيرا عن ولائهم له لكنهم لا يتحدثون عن ذلك علنا، لان الرئيس بالوكالة لا يريد ان يكون مدينا لاحد، والامر سيان لهذا وذاك من باب أن 'تقنية الولاء' هذه تحرج الطرفين، فالتبعية تفسد الصورة السياسية للشخص المعد وتجلب الاقاويل وتكثر الحساد.
لقد اعلن الجميع ابتداء من ريم فياخريف رئيس 'غاز بروم' مرورا باناتولي تشوبايس الكهربائي الأول ، حتى يوري لوجكوف عمدة العاصمة الذي قال انه لا يريد منافسة بوتين في الانتخابات، انهم يؤيدون الرئيس بالوكالة كل حسب طريقته التي يقررها وضعهِ وفي غضون ذلك يتظاهر فلاديمير بتعامله الودي المبني على المساواة مع الجميع استكمالا لصورة زعيم الأمة.
وتكريسا للصورة المقترحة اجبروا 'جنرالات النفط' على أخذ الالتزامات المرتفعة على عاتقهمِ وحدث الامر نفسه بوضع اليد على المنشآت الميتالورجية ومن الواضح ان هناك ان اتصالات عكسيةِ وعموما يبقى البيزنيس الآن في حالة استعداد تام لدخول بوتين الثاني إلى الكرملين.
الباعة ِِ والمشتري الواحد
وهذه اللعبة تشبه وجود باعة متنافسين امام مشتر واحدِ وهي عكس الحالة التي كانت في انتخابات 1996 عندما مول رجال الاعمال كل المدعين لمنصب الرئاسة بغية تأمين انفسهمِ واتضح فيما بعد ان طواغيت المال لم يخطئوا التقديرِ فالوقوع في قائمة ممولي حملة بوتين الانتخابية هو صك الغفران واستمارة الانتساب إلى 'العائلة الجديدة' الحاكمة.
ويجدر القول ان الباعة المتنافسين على المشترى الوحيد ليسوا بأولئك الباعة القدماء، فهؤلاء تقف وراءهم امبراطوريات مالية وصناعية كبيرة من طراز 'ايروفلوت' و'روس بروم' و'غاز بروم' و'برومات' اخرى لاعد لها وهم اصحاب البيزنيس الكبير، بل الكبير جدا، ومهما كان الامر يبدو ان البلاد كلها مستعدة لبذل جهدها في قضية ايصال بوتين إلى الرئاسة.