السبت، 18 يونيو 2011

الكرملين وأزمة الكويت (2)

تابعوا في العواصم العربية والغربية باهتمام بالغ حملة الضغط العراقية على الكويت والإمارات الآخذة بالتزايدِ وكانت هذه الحملة تثير قلق الشخصيات الفطنةِ مثلا، خلال لقائي مع وزير الدولة للشؤون الخارجية التونسي حبيب بن يحيى وصف الحالة المتشكلة بالخطرة والمنذرة بالانفجارِ ورأى أن العرب إذا لم يتعاملوا معها بالعقل، فان الانفجار حاصل قبل الوقت الذي يفترضه الكثيرونِ وكانت مثل هذه الآراء تطرح بهذه الطريقة أو تلكِ وظنوا ان الكويتيين سيدفعون هذه المرة الفدية الدورية للجار الوقحِ
وبطبيعة الحال كانت الخلافات العراقية - الكويتية الموضوع الرئيسي في مناقشاتي مع سفيري كلا البلدين في موسكوِ وبما أن كلا منهما سيذكر أكثر من مرة في صفحات الكتاب، فلابد من قول بضع كلمات عن هذين الدبلوماسيينِ
تعرفت عليهما في آن واحد عندما زاراني بمصاحبة ممثل جامعة الدول العربية في 23 مايو 1990 لأجل مناقشة الهجرة المتزايدة لليهود السوفيت الى إسرائيلِ وحضر السفير الكويتي بصفته عميد السلك الدبلوماسي العربي في موسكوِ أما السفير العراقي فقد جاء بصفته ممثل البلد الذي انعقد فيه لقاء القمة العربيةِ
تعليمات حرفية
كان السفير العراقي غافل جاسم حسين في كل أحاديثه معنيا بحزم وعلى الدوام بالأطر الرسمية، ولم يتناول أبدا أي موضوع، حتى تلك التي جاء من أجلهاِ وبدا وكأنه يطرح الحد الأدنى من الكلمات في غضون تنفيذه للتكليفات الموكلة إليهِ وكنت أشعر بأن كل كلمة يتفوه بها مأخوذة حرفيا من التعليمات التي استلمهاِ وعندما كنت أطلب منه التعليق على ما قاله، كان يرد على طلبي، بالكلمات نفسها التي قالها وبالإيجاز نفسه وخاصة عندما يدور الحديث حول مبادرتيِ لم يحصل بيننا بتاتا تبادل حي وغير متكلف للآراء، وكان السفير يصر على معرفة نفسه بأنه مرجع للنقل فقطِ كان في متوسط العمر ونحيفا ومزررا بكل الأزرار ( في المعنى المباشر والمجازي )ِ وعرفت أنه كان يسلك، خلافا لذلك، تجاه العاملين معي، خلال زياراته لإدارة بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأنه متعجرف وسليط اللسانِ
أما السفير الكويتي عبد المحسن يوسف الدعيج فيناقض السفير العراقي تماماِ كان أصغر سنا بقليل ويترك انطباعا بأنه محب للحياة ومؤانس وديناميكي ولديه شعور عال بالنكتةِ وكان يمكث في موسكو لفترة طويلة ويتكلم الروسية وله عدد ليس بقليل من الأصدقاء الموسكوفيين، بمن فيهم موظفو وزارة الخارجية الذين لم ينسهم عندما انتهى عمله كسفير في موسكوِ وعندما عين مثلي سفيرا في كندا، كانت زياراته تتواصل الى موسكو، فقد كان يشعر بحنين حقيقي إليهاِ
لأعود الى جوهر الموضوع ِِ عندما كان سفير العراق يتكلم عن المشاكل الخاصة بالشؤون النفطية، يركز على أن بلده يتكبد خسارة جراء انخفاض أسعار النفطِ ويفسر هبوطها ب 'المخطط المشكوك فيه' الذي تنفذه الكويت ودولة الإماراتِ وحسب أقواله فان القيادة العراقية تنظر الى عدم مراعاة حصص استخراج النفط من قبل هاتين الدولتين 'مؤامرة صريحة' تهدف الى إضعاف الإمكانات المالية للبلدان العربية مثل العراق وليبيا والجزائرِ
الغاء الديون
ومن جانبه، كان السفير الكويتي يفند الاتهامات العراقية الباطلة بقيام الكويت بتخريب اقتصاد العراقِ ويؤكد على أن بلده يقدم المساعدات الى العراقِ ويرى أن سبب التوتر ناجم من أن بغداد تمارس الضغوط على بلده بقصد إلغاء ديونها العديدة والحصول على اعتمادات جديدةِ وحسب قول السفير الكويتي اتجهت القيادة العراقية الى الكويت بغية الحصول على الأموال قبل أسبوع واحد من نشر التهم في دورة جامعة الدول العربية ضد بلدهِ واعترف السفير بأن الكويت رفضت إلغاء الديون العراقية، وأنها ردت إيجابا على طلب الاعتمادات الجديدة وأنها اقترحت أن تسير وفق آلية الصندوق العربي للتنمية الاقتصاديةِ أما مشكلة الحدود فان الكويت، حسب قول السفير، راضية عن موافقة العراق لغرض بحثها في إطار جامعة الدول العربيةِ وقال السفير مشيرا الى اتصالات السفارة الكويتية في واشنطن مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية بأنه حسب التكهنات الاميركية فمن المشكوك فيه أن يقوم صدام حسين بتصعيد الموقف أكثرِ جرى حديثي مع السفير الكويتي في 23 يوليوِ
الا أن وتيرة الأحداث كانت تسير نحو التصعيدِ وبدأت الاستخبارات الاميركية وآليتها الفضائية والملحقون العسكريون لمختلف البلدان في العراق يسجلون تحركات القوات العراقية بما فيها قوته الضاربة، الحرس الجمهوري كما يسمونه، باتجاه الحدود مع الكويت، وكانت وحدات الدبابات والمدرعات الأخرى تلعب دورا خاصا في هذه التحركاتِ
وطرح السؤال عما يعني كل هذا: إذا كان هذا التلويح بالسلاح فقط بهدف التخويف، وهل تكون الكويت الهدف الوحيد لذلك؟ ، أم أن شيئا أكبر قد يحصلِ أو العكس؟، فقد لا يتعلق تحرك القوات بالخلافات العراقية - الكويتيةِ
ومهما كان الأمر، كان الغموض يقلق الزعماء العرب، وربما بالدرجة الأولى الرئيس المصري حسني مبارك، الذي كان عليه قيادة مؤتمر القمة العربية المقرر عقده في القاهرة في نوفمبرِ
وبعد أن تلقى حسني مبارك من مخابراته معلومات تؤكد على تركز القوات العراقية في الحدود مع الكويت وبعد لقائه مع طارق عزيز في القاهرة في 22 يوليو، قرر التوجه مباشرة الى صدام حسين وإذا اقتضى الأمر يصبح وسيطاِ وقام لتحقيق هذا الهدف في 24 يوليو برحلة سرية الى بغداد حيث اختلى بالرئيس العراقي لثلاث ساعاتِ وجاء في كتاب عن الأزمة الكويتية والذي أعدته مجلة 'يو اس نيوس أند وورد ريبورت' عن لقاء الرئيسين على أساس مراسليها ما يلي:
كنت أستمر في سؤاله: ما هي نواياك ولماذا هذا التوتر بين العراق والكويت؟ وكان مبارك يضغط على صدام بشأن تحرك فرق الحرس الجمهوري نحو الكويتِ وكان صدام يجيبه بأنه ليس ثمة داع للقلق وأن هذه التحركات عاديةِ غير أن مبارك استمر في الإصرار على رأيه، وجهت إليه سؤالا واضحا ومباشرا: هل لديك نوايا بتنفيذ عمل عسكري ضد الكويت؟ وأعاد الرئيس العراقي كلامه بأنه لا داع للقلقِ وأن تحركات قواته هدفها تخويف آل الصباح فحسبِ وقال صدام انهم مذعورون وخائفون ويكفي هذاِ وقال مبارك لصدام في الطريق الى المطار انه سيسافر الآن الى الكويت وإن كان بإمكانه نقل أي شيء الى آل الصباح من الزعيم العراقي مباشرةِ وحسب قول مبارك أبدى صدام اهتماما ضعيفا لهذا الطلب وقال: لا أقل لهم الآن أي شيءِ انني لا أنوي ان اتخذ شيئا ما، دعهم يرتجفوا خوفاِ وأجاب مبارك على هذا الكلام باقتراح مضاد مفاده أن يوفد صدام من يمثله الى بلد ثالث ويرسل الكويتيون وفدا أيضا، فمن الممكن أن يتوصل الجانبان الى حل لخلافاتهماِ وليس بالضرورة أن تكون مصر البلد الثالثِ لماذا، مثلا، لا تكون العربية السعودية؟ِ وبالفعل اجتمع الجانبان في جدة التي كانت أكثر حيادية وملائمة في حرارة الصيف التي لا تطاقِ ووافق صدام على هذا الاقتراحِ
حدث فيما ما بعد ما أثار عجب الرئيس المصريِ وخلال استمرار طيرانه من بغداد الى الكويت وخلال ساعة وربع الساعة فقط، أصدر وزير الخارجية العراقي طارق عزيز وفي اللحظات التي كانت طائرة الرئيس المصري تهبط في الكويت، بيانا صحفيا أعلن فيه لقاء الرئيسين مؤكدا أنه تمت مناقشة العلاقات العراقية - المصرية وأن مسألة الكويت لم يتم التطرق إليهاِ
ومع ذلك، أوصل حسني مبارك رسالته حتى نهايتهاِ واتفق مع أمير الكويت ومن ثم مع الملك فهد عاهل العربية السعودية على إجراء المحادثات في جدة وأخبر صدام حسين بذلك في اليوم التالي بالهاتفِ ونصح مبارك الجانب الكويتي بإبداء المرونة وأخطر الكويتيين مباشرة بأن العراق بحاجة الى أموالِ
وبعد أن علم رؤساء الدول عن رحلة حسني مبارك الى بغداد، انهالت عليه الاتصالات الهاتفية بغية الإطلاع على نتائجهاِ وكان مبارك يوضح لهم في ذلك المعنى بأنه وفقا للتأكيدات التي حصل عليها فان الحديث لا يدور حول تدخل القوات العراقية في الكويتِ وأبلغ ذلك الرئيس الاميركي جورج بوشِ
وكان الجانب العراقي ينفي قطعيا فيما بعد ( بما في ذلك خلال الأحاديث في موسكو ) بأن صدام حسين أعطى مبارك أية وعود بعدم التدخل في الكويت وأكد العراقيون ان رئيس مصر 'لم يفهم ' كما زعموا، تركيبة الكلام الذي كان الرئيس العراقي يجسم فيها أفكاره بشأن الكويتِ
وأدلى طارق عزيز في حديثه مع ميخائيل غورباتشوف في اللقاء الذي حضرته برأيه في هذا الصدد على النحو التالي: لا يستطيع أحد من الزعماء العرب أن يقول بالنص الصريح لزعيم آخر بأنه سيضطر لبدء العمليات الحربية ضد بلد عربيِ غير أن أي إنسان سليم العقل ينبغي أن يدرك عما يجري الحديث ( لنلاحظ أن طارق عزيز اعترف عمليا بتفسيراته بأن قرار تنفيذ اجتياح الكويت قد اتخذ بينما كان حسني مبارك وصدام حسين يجتمعون في بغداد )ِ
وعدا الرئيس المصري أبدى ملك الأردن حسين نشاطا معينا في هذه الأيام أيضاِ فقد زار بغداد في 30 يوليو والتقى بصدام حسينِ ومن هناك طار الى الكويت حيث تحدث مع ولي العهد سعدِ ويقال في كتاب ابن أخ الملك السعودي الجنرال خالد بن سلطان عن هذه المناقشات ما يلي: كما أعرف اهتم ولي العهد الشيخ سعد بما يجول في عقل صدامِ
الملك حسين: هو زعلان منكم جدا!
الشيخ سعد: هل ثمة خطر عسكري؟ الملك حسين: كلاِ
الشيخ سعد: ولماذا ركز القوات على طول حدودنا؟
لم يصدق الملك حسين بأن القوات توجد هناك بالفعلِ ولذا اقترح عليه الشيخ سعد بإيصاله الى منطقة الحدود لرؤية مواقع العراقيين الأمامية التي كانت واضحة جدا في ذلك الوقتِ
حسين ينفي الخطر العسكري
يصعب الاستنتاج فيما قيل بما انحصرت فيه الرسالة التي كان الملك حسين يريد إيصالها في الحقيقة: إخطار الكويتيين أو ترك الانطباع لديهم بأنه لا يوجد ثمة خطر عسكريِ ولكن إذا أخذنا في الاعتبار بأن الملك حسين أخبر الرئيس بوش في تلك الأيام بعدم وجود خطر عسكري، فمن المرجح أن نتوصل الى استنتاج بأنه من المشكوك فيه أن مهمة الملك كانت تنحصر في إخطار القيادة الكويتية بالاعتداء المحتملِ وهذا لا يتفق مع طبيعة علاقاته الشخصية مع صدام حسين وكل سلوكه اللاحقِ
وزار بغداد في الأيام نفسها الأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي ( لم يرغب المسؤولون العراقيون في رؤيته واستقباله وكانوا يتعمدون تأجيل وصوله ) ولم تأت زيارته بنتائج ملموسةِ
فما هو إذن الدور الذي خصص للقاء العراقي - الكويتي في جدة؟
تم اللقاء في الأول من أغسطس ومثل ولي العهد الشيخ سعد الجانب الكويتي، فيما ترأس الوفد العراقي عزة إبراهيم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وهو الشخصية الثانية في الدولة شكلياِ يكتب الجنرال خالد بن سلطان عن هذا اللقاء ما يلي:
خلافا لبعض التقارير المنشورة فيما بعد، لم يصبح لقاء جدة ميدان معركة، ولم تحدث فيه انفجارات ولا علامات سخطِ لم يحدث أي شيء يبرر غزو الكويت في الليلة التاليةِ كان في وسع عزة إبراهيم أن يأمل بالطبع عندما كان يقوم باستمالة المعارضة الدبلوماسية الشديدة في الأيام السابقة في وداعة الكويتيين واستعدادهم لإسقاط ديون العراق العسكرية وتقديم معونات جديدة والتخلي عن الموقع النفطي الرميلةِ غير أن الكويتيين لم يكونوا مستعدين لتقديم التنازلات دون قيد أو شرطِ وكانوا ينوون رفض أفكار صدام الباطنية الواضحة جدا والتي تعني أن ما يملكونه سيكون ملكا للعراق في معنى معينِ وعندما لم يقدموا تنازلات فقد عزة إبراهيم اهتمامه باللقاءِ
افتتح الملك فهد اللقاء بالتحيات الأخوية التقليدية وترك الجانبين يتحادثان على انفرادِ ووصلا فيما بعد الى قصر الملك ليبلغاه بنتائج المباحثات في سيارة واحدة مزينة بالعلمين العراقي والكويتيِ أقام الملك مأدبة غداء تكريما لهما وتمت فيها مراعاة القواعد الرسميةِ أجلس الملك فهد الشيخ سعد على يمينه وعزة إبراهيم على يسارهِ ولم يدل شيء على أن العلاقات قد قطعت أو أن المباحثات تعاني من مأزقِ وتم الاتفاق على مواصلة المباحثات في بغداد في المستقبل القريبِ غير أن صدام غزا الكويت بعد مرور عدة ساعاتِ
يمكننا استنتاج ما يلي عن كيفية تنظيم لقاء جدة وكيفية جريانه وما تبع ذلك: لم تكن القيادة العراقية في حقيقة الأمر، تنوي إجراء المحادثات مع الكويتِ كان لقاء جدة عبارة عن تنازل تكتيكي للرئيس مبارك كأسلوب لإضعاف رد فعل الدول العربية على الغزو المخطط له للكويت وإضعاف يقظة الكويتيين وغيرهم في آن واحد وعمل تمويه بأن المحادثات ستستمرِ فقد أدلى طارق عزيز بتصريح خاص مفاده بأن اللقاء التالي سيتم في بغدادِ وأبلغ سفير العراق في واشنطن لمساعد وزير الخارجية الاميركي جون كيلي بالموقف نفسهِ غير أن النتيجة تتوثب: كانت بغداد تقوم عن عمد بالتضليلِ
وقررت القيادة الكويتية التي اجتمعت على عجل بعد اختتام لقاء جدة عدم اتخاذ أي شيء بانتظار الجولة التاليةِ ومن الممكن أنهم في الكويت لم يكونوا مذعورين لأنهم تعودوا خلال سنوات عديدة على تظاهر بغداد بالقوة والتي كانت تصل أحيانا الى اعتداءات مسلحةِ فمثلا، حشدت بغداد قواتها على الحدود مع الكويت في عام 1973 واحتلت جزءا من أراضي الكويت الشمالية الشرقية وسحبت قواتها بناء على طلب من جامعة الدول العربيةِ وخلال الحرب مع إيران، كانت القوات العراقية ترابط في جهة الحدود الكويتية عدة سنوات ( بحجة الخطر الإيراني وخلافا لاعتراضات الكويت)ِ
وهذه المرة أيضا فضل الكويتيون عدم اتخاذ تدابير معينة لكي لا يعطوا ذريعة لبغداد للاعتداء عليهمِ وفي حقيقة الأمر هل يمكن الحديث عن مقاومة عسكرية خطيرة؟
الكويت أقل من العراق مساحة في 25 مرة وعدد سكانها أقل بعشر مرات وقواتها المسلحة ضئيلة جدا بالمقارنة مع جيش العراق الذي بلغ عدد أفراده مليون مقاتل صقلتهم حرب السنوات الثمانيِ
ولم تستعجل القيادة الكويتية في الاستعانة بالنصرة السياسية والعسكرية الأجنبية خلافا للرئيس الإماراتي الذي سافر فورا الى واشنطن بعد اتهام بلاده بالعدوان الاقتصادي على العراق عائدا بمقترح إجراء مناورات عسكرية مشتركة ( وتحقق ذلك بالفعل )ِ
طابع الهجوم
واعتقد أن القارئ سيهتم بالحديث عن تلك الأيام الذي أجريته مع الأمير بندر بن سلطان الممثل الخاص لملك العربية السعودية الذي وصل الى موسكو في أغسطس 1990 تحدث الأمير بأنه " قبل دخول القوات العراقية الى الكويت بأسبوع واحد أخبرنا الأمريكان أن العراقيين يركزون وحداتهم العسكرية في منطقة الحدود الكويتية، واستفسرنا من بغداد عما يعني هذا، أجابونا أن الأمر لا يعدو أكثر من تدريبات عسكرية يتهيؤون لإجرائها، ونقلنا ما قيل الى الكويتيين ووثقوا بهذا، وكانوا مهمومين بتلك المعلومات التي نقلها الأمريكان لهم ظانين أن واشنطن تبحث عن حجة لمرابطة قواعدها في أراضيهمِ وبعد عدة أيام أحال الأمريكان إلينا وإلى الكويتيين صور الأقمار الصناعية التي تظهر القوات العراقية والتي دلت على أن القوات العراقية مرابطة بوضع هجوميِ غير أن الكويتيين ظنوا من جديد أن الأمريكان يسعون الى تخويفهم ويبحثون عن حجة لإدخال قواتهم الى بلدهمِ واتصل الملك فهد في اليوم نفسه هاتفيا بصدام حسينِ وأكد الرئيس العراقي لملكنا أن أي تدخل في الكويت لم يهيئ لهِ ولكن الملك فهد أوفد الى بغداد وزير الخارجية وحاولوا إقناعه أيضا أن أي تدخل لم يخطط لهِ وأثبت صدام حسين هذا الشيء في الأيام نفسها تقريبا لرئيس مصر وملك الأردن وياسر عرفات بأنه لن يحدث أي عمل عسكريِ ونقلوا هذه التأكيدات فيما بعد الى الكويتيين وإليناِ وحاولنا من جانبنا تهدئة الكويتيين ونشعر الآن بأننا كنا مذنبين "ِ بالتالي، إذا كانت القيادة العراقية تنوي إخفاء خططها فأنها نجحت في ذلك تماماِ فقد نام الكويتيون بهدوء في ليلة 1 - 2 أغسطس ولم يسلموا في الكويت وواشنطن ولندن والعواصم العربية والعواصم الأخرى بفكرة أن مصير الكويت كدولة مستقلة سيكون مشكوكا فيهاِ
ولعل سفر أكثرية السفراء بما فيهم السفير الأمريكي والسوفيتي المتوافق في يوليو من بغداد لقضاء الإجازة، دليل على أن الأزمة لم تكن متوقعةِ ويعتبر أغسطس موسما ميتا سياسيا ليس في أوروبا والولايات المتحدة فحسب، بل في العالم العربي أيضا ( يعود ذلك لأسباب مناخية حيث تصل درجة الحرارة في نهاية الصيف الى حد لا يطاق)ِ كان فيكتور بوسوفاليوك الدبلوماسي المجرب والمستعرب سفيرنا في العراق في ذلك الوقتِ شغل منصبه في بغداد في أبريل 1990 وكان قبلها سفيرنا في سلطنة عمان، حيث نقل من هناك الى العراقِ وتجسس بوسوفاليوك قبل عدة أيام من سفره الى موسكو وعلم من السلطات العراقية فيما إذا لم تكن هناك موانع ما لغيابه المؤقت عن البلدِ وأكدوا له أنه لا يوجد مانع من تمتعه بالإجازةِ وحصل أنه مكث في موسكو يومين أو ثلاثة فقط واضطر إلى العودة بأول رحلة بعد الاعتداء العراقي على الكويتِ
وكما أشرت، كانوا في موسكو يتابعون باهتمام وانتباه تطور الأحداث في المنطقةِ ولم يرد إلينا أي شيء مقلق لا من سفرائنا ولا من خطوطنا الأخرىِ وتوجهت قبل يومين من الاعتداء الى الإدارة العملياتية في هيئة الأركان العامة وكانوا يعتقدون أيضا بأن حشد القوات العراقية يتعلق بتدريبات مقبلة (ويبدو أن مثل هذه الرواية لم تكن تدس للسعوديين فقط، بل لممثلينا العسكريين في العراق أيضا)ِ وفي 27 يوليو وخلال استقبالي رئيس وفد جمعية الصداقة العراقية - السوفيتية وزير الدولة العراقي أرشد الزيباري قلت له إننا في الاتحاد السوفيتي نتابع بانتباه توتر العلاقات العراقية - الكويتية ومعنيون بإخلاص بأن الخلافات الناشئة ينبغي تسويتها بالوسائل السياسية عن طريق الاتصالات الثنائية أو بمساعدة أجهزة جامعة الدول العربيةِ وفي غضون ذلك أعربت عن ارتياحنا عن ارتفاع أسعار النفط وعن الأمل في أن أحد أسباب الخلافات العراقية - الكويتية قد أزيل بنجاحِ وأشرت كذلك (كما فعلت هذا من قبل في أحاديث مع سفيري العراق والكويت) إلى أننا ننظر الى أي توتر في العالم العربي كعامل سلبيِ وكان الوزير يحني رأسه ولم يقل من جانبه شيئا يمكنه إثارة هلعناِ وقبل يوم واحد من العدوان استقبلت بعثة النوايا الحسنة العمانيةِ وإن كان الحديث مكرسا على العلاقات الثنائية، إلا أنني رأيت من الضروري أن أقول: نعبر عن قلقنا بشأن التوتر الحاصل بين العراق والكويت ونأمل في أن الجارين سيتمكنان من تسوية مشاكلهما وتطبيع علاقاتهما وإذا اقتضى الأمر بمساعدة الدول العربية الأخرىِ وسيعمل الاتحاد السوفيتي في اتجاه تطبيع العلاقات العراقية - الكويتية وهذا ما يحدده موقفنا المبدئي: العمل في مصلحة الوحدة العربية على الدوامِ

خسائر الحرب مع إيران : 500 إلى 700 مليار

للحق لا أستطيع حتى الآن أن أوضح لنفسي، كيف تمكنت قيادة العراق وبدا أنها مكونة من رجال ناضجين ومجربين جدا الإقبال على تلك المغامرة كالاستيلاء المسلح على دولة أخرىِ يمكنني أن أبني آرائي على الأخطاء الفاحشة للغاية التي أدت الى هزيمة العراق العسكرية وتلك الحالة التي لا يحسد عليها الشعب العراقي ودولته بعد مرور عشر سنواتِ سأتحدث عن هذه التفاصيل في الفصل الأخير من الكتابِ لكن أود الإشارة الآن الى مسألة واحدة: لماذا صعب حتى التصور بأن بغداد ستسير في عام 1990 بإرادتها الخاصة نحو الحرب؟
سنتان مضتا على انتهاء أطول النزاعات الحربية الدامية في النصف الثاني من القرن العشرين وهي الحرب العراقية - الإيرانية والتي أعلنت السلطات العراقية في ختامها عن انتصارهاِ وهذا يكون صحيحا جزئيا فقط، في ذلك المعنى الذي اضطر فيه الخميني في النهاية الى التخلي عن حلم إسقاط نظام صدام حسين وبعد أن استنفد قواه في الحرب وافق الخميني على وقف إطلاق النار وكانت بغداد مستعدة لذلك بسرور قبل ست سنوات من تلك اللحظة عندما خرست طلقات النارِ ولم تتوصل بغداد الى شيء في النهايةِ أخذت زمام المبادرة في شن الحرب ومن ثم لم تعرف كيف تنهيها عندما بدأت القوات العراقية تطرد الى المواقع نفسها التي بدأت منها الهجوم قبل ثمان سنواتِ أتذكر جيدا ذلك لكوني ممثل الاتحاد السوفيتي الدائم في مجلس الأمن وكانت مسألة الحرب العراقية - الإيرانية على جدول أعمالنا على الدوامِ وحسب بعض المعطيات بلغت خسائر العراق الاقتصادية جراء الحرب ضد إيران نحو 500 - 700 بليون دولار وهلك وشوه فيها نصف مليون عراقي وعانت جدا مدينة البصرة التي كانت القوات الإيرانية تحاول الاستيلاء عليها أكثر من مرةِ وتكبدت الصناعة النفطية وحقل تكرير النفط وهما أساس الاقتصاد العراقي خسائر جسيمة، مما أثر سلبا على مستوى إنتاج النفط وبالتالي على مستوى إيراداته الناتجة عن التصديرِ فقد كان العراق يستخرج في العام الذي سبق الحرب 1979 نحو 175 مليون طن من النفط، لم يتمكن من استخراج سوى 139 مليون طن فقط بعد مرور عشر سنينِ
وبعبارة أخرى تحولت الحرب ضد إيران بالنسبة للعراق وفي نواح كثيرة وخاصة البشرية والاقتصادية والاجتماعية الى مصيبة كبيرةِ لذلك احتل التغلب على خسائر الحرب الصدارة وأصبح المهمة الوطنية الرئيسية التي ينبغي تنفيذها في ظل حالة من السلام والهدوء ولهذا السبب بالذات صعب التصور أن تقوم القيادة العراقية بالاشتباك من جديد في مغامرة حربيةِ وحصل ذلك للأسف الشديدِ