الأحد، 12 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت (7)

في 7 أغسطس طلب مني السفير الأميركي في موسكو جورج ميتلوك لقاء عاجلا وقدم لي رسالة شفهية عاجلة لأدوارد شيفرنادزه من وزير الخارجية الأميركي، أخبر نظيره فيها بأن الولايات المتحدة ستنشر بطلب من الحكومة السعودية في هذا البلد قواتها الجوية والبريةِ ثم تلا هذا الخبر توضيح الأسباب التي أملت القرارِ وأعطيت التأكيدات المهمة كما جاءت في الرسالة: لا ننوي استخدام هذه القوات لأجل أهداف معينة سوى صد العدوان العراقيِ ويمكنكم أن تكونوا على يقين بأن قواتنا المسلحة ستستخدم للدفاع عن المملكة العربية السعودية وأننا لن نبادر في شن أية عملية عسكريةِ ومازلنا نؤمن بأن أفضل طريقة لوضع حد للعدوان العراقي هي توظيف الوسائل غير الحربيةِ
تحول ومفاجأة
هكذا عرفوا في موسكو ان تحولا جديدا قد رسم في تطور أزمة الكويتِ وكان هذا بالنسبة لي مفاجأةِ فقبل ذلك بقليل أجبت عن سؤال الصحافيين عن كيفية تطور الأحداث فيما بعد على النحو التالي (أستشهد بالجريدة): 'قال بيلونوغوف أنه لا يجوز للأسف استبعاد تصاعد وتيرة النزاع وعلى سبيل المثال دخول الولايات المتحدة في عملية عسكريةِ ويرى بأن ذلك قد يحدث في حالتين: أولا، اذا حصل للمواطنين الأميركيين في الكويت أي مكروهِ وثانيا، اذا هاجم العراق السعوديةِِِ سوف لا تسلم واشنطن بالعدوان على حليفها الأكثر متانة في الشرق الأوسطِ وسيفضل الأميركان ألا يصل الأمر الى التصادم المكشوف مع العراق، لسبب أنهم غير مستعدين له بعدِ فالقوة الأميركية الموجودة في المنطقة غير كافية لكي تقارع جيشا من مليون شخص مزودين بالأسلحة الحديثة ومجربين بحرب الثماني سنوات القاسية ضد ايران'ِ
استنتجنا من خبر بيكر أن الأميركان قرروا الآن تقوية هذه الحلقة الضعيفةِ ولم يكن ثمة وضوح كاف فيما يخص مقدار هذه التقوية وأهدافهاِ وطلب ميتلوك مني ابلاغ شيفرنادزه بالرسالة بأسرع وقت ممكن لكي يعرف مقدما عن هذا الموضوع الذي ينوي بيكر التكلم عنه بالهاتف معهِ
حديث مزعج
وبالفعل، تكلم بيكر في المساء نفسه مع وزيرنا وحتى مرتينِ كان الحديث الأول صعبا وأظنه مزعجا لكلا المتحدثينِ فقد أعرب وزير الخارجية السوفيتي عن عتابه العادل على أن تصرف الولايات المتحدة مخالفا لما اتفقا عليه في موسكو وبادرت من طرف واحد في خرق مبدأ المشاورات المتبادلةِ زد على ذلك تتصرف على عجل دون أن تنتظر كيف سترد بغداد على قرار فرض العقوبات الاقتصادية الصادر حديثاِ وكان بيكر ينجو من هذا العتاب المتدفق بالاشارة الى أن أعمال الولايات المتحدة لا تتعارض مع قواعد القانون الدولي، وزعم أن العملية دفاعية هدفها مساعدة بلد صديق مقرب للولايات المتحدة لا يستطيع رد ضربات العراق في حالة انزالها به، وأن الولايات المتحدة نفسها لا تنوي مهاجمة العراق ولن تلجأ لاستخدام القوة اذا لم يمل ذلك مصلحة الدفاع عن حياة مواطنيها في الكويتِ
وأشار شيفرنادزه الى أن الوضع سيسخن الآن بلا شك وأنه سيكون من الصعب حل المشكلة بالوسائل السياسية، وقال انه مع ذلك يبقى موقفنا بلا تغيير: عدم المراهنة على أساليب القوةِ وأضاف لبيكر، انه من المهم الآن عدم تصعيد المواجهة والتمسك بحزم بالأعمال الجماعية والمنسقة في اطار الأمم المتحدةِ
قال بيكر في المكالمة الهاتفية الثانية انه أبلغ الرئيس جورج بوش بالحديث الذي جرى بينهماِ وطلب الرئيس أن ينقل الى القيادة السوفيتية انه سيدلي بتصريح يشير فيه من كل بد، الى أن نشر القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية هو اجراء مؤقت له طابع استثنائي، وأنه ليست للولايات المتحدة نوايا ما للهجوم على العراقِ وركز بيكر في حديثه على واقعة تصريح صدام حسين في 6 أغسطس للقائم بالأعمال الأميركي في بغداد جيمس ويلسون بأنه لا يمكن أن تحدث في الكويت عودة الى الماضي وأن النظام الحالي سيبقى هناك ماسكا زمام الحكمِ ونوه بيكر بأن هذا دفع الى اتخاذ القرار النهائي في صدد نشر القوات في السعوديةِ
الحارس الرئيسي
ويترك مما سيكتب فيما بعد عن مضمون حديث صدام حسين مع الدبلوماسي الأميركي بأن بغداد كانت تنطلق في تلك اللحظة من امكانية اقناع الأميركان بالموافقة على اقامة نظام موال للعراق في الكويت وحثهم على المراهنة على عراق صدام حسين بصفته الحارس الرئيسي للمصالح الأميركية في المنطقةِ
وأسبغ صدام حسين في حديثه مع جيمس ويلسون طابع الرسالة الشفهية الى الرئيس الأميركيِ وكان يتكلم عن قصة العلاقات الأميركية ـ العراقية المتشكلة بصورة غير متساوية، مركزا الاهتمام على سعي بغداد لأن تكون لها علاقات ليست عادية مع الولايات المتحدة، بل وثيقة متأسسة على الاحترام المتبادل لمصالح بعضهما البعضِ وقال صدام حسين: 'العراق مليء بالرغبة في احترام المصالح الدولية الشرعية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط'ِ وصرح الرئيس العراقي أثناء حديثه بأن اهتمام الولايات المتحدة في الاقليم هو النفط، وذكر بأن ثلث النفط العراقي كان يوجه الى أميركاِ وشدد على أن المصالح النفطية الأميركية ستؤمن على أفضل وجه من قبل 'النظام الوطني والقوي واقعيا'ِ
تجدر الاشارة الى أنه قد قيل شيء مشابه في عام 1983 لوزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت شولتس راغبا (أي صدام) في اقناع الأميركان بأن العراق الأفضل من السعودية بالنسبة للولايات المتحدة لأنه أقوى منهاِ
وذكر الزعيم العراقي الكويت تحت ظل حكم آل الصباح بتهكم وأفهم بوضوح أن التغييرات الجارية هناك لا رجعة فيهاِ ونفى في الوقت نفسه تعليقا على اجراءات العراق ضد الكويت أنه كان قد أعطى وعدا لأحد ما من الزعماء العرب بعدم الاعتداء على الكويتِ بل شدد بالأخص على معاهدة عدم الاعتداء المبرمة مع السعودية وأنه سيراعي مبادئها بشكل مقدسِ وعلق صدام حسين على أنباء مرابطة القوات العراقية على خط الحدود مع السعودية بالمختلقة بهدف 'اعطاء الحجة للتدخل في شؤون المنطقة وتبرير العدوان على العراق'ِ
وفي غضون ذلك أنذر الولايات المتحدة من التدخل في شؤون دول الخليج وفي 'العلاقات الأخوية' بين العراق والسعودية قائلا: 'أن العلاقات الطيبة بين العراق والسعودية لا تعود بضرر ما على الولايات المتحدة، بل هي أحد عوامل الاستقرار في المنطقةِ لذا سيخل التدخل في العلاقات بين العراق والسعودية باستقرار المنطقة وسيلحق أضرارا بمصالح الولايات المتحدة'ِ
ولم ينته الأمر بدون توجيه التهديداتِ فقد لوح صدام حسين الى أنه في حالة عقد الصلح بين العراق وايران ستجد الولايات المتحدة نفسها في 'حالة صعبة' واذا بدأت الحرب فستهزم فيهاِ
وأورد مقتطفا مما حصل مع جيمس ويلسن كما جاء في كتاب بوش وسكوكروفت يستشهد فيه ويلسون بأقوال صدام حسين:
'اذا رغب الرئيس بوش في المحافظة على المصالح الأميركية كما وصفها نفسه فإن تصعيد التوتر والخيار العسكري يناقضان هذه المصالحِ سأقول لكم كيف ستنهزمون: انكم القوى العظمى وأعرف أنه في وسعكم الحاق الخسارة بناِ ولكنكم أنفسكم ستفقدون المنطقة كلهاِ ولن يتسنى لكم اخضاعنا أبداِ ستتمكنون من تدمير جزء من قاعدتنا الاقتصادية والصناعية، ولكنه بقدر ما تكبر الخسارة التي ستلقونها بنا، بقدر ما تورطون أنفسكم في حالة أصعبِ لن نجلس في مثل هذه الحالة في المنطقة دون عمل 'ونكش الذباب'ِِ انقلوا للرئيس بوش أن عليه أن ينظر الى أمير الكويت وولي عهده كأنهما تاريخِ لن نعيد الكويت الى أحد ما أبدا ولن نجعلها غنيمة باردة حتى لو اجتمع العالم بأسره ضدناِ سنقاتل ونقاتلِِِ نعرف أنكم دولة عظمى قادرة على الحاق الضرر الكبير بنا، بيد أننا لن نستسلم أبدا'ِ
سعى صدام بنقله الرسالة الى بوش بواسطة ويلسون للحيلولة دون ظهور القوات الأميركية في السعوديةِ وبلا شك كان هذا الهدف الرئيسي لدعوة القائم بالأعمال الأميركي من قبل الرئيس العراقيِ غير أن هذه الخطوة لم تأت بالنتيجة المرغوبة: لقد جنحت واشنطن تجاه المواجهة العسكريةِ ولم تتمكن ثقة صدام بنفسه من تثبيت عزيمة واشنطن فحسب، بل لتلقين بغداد درسا قاسياِ ومن أجل ذلك حشدت قواتها المناسبة في منطقة الخليجِ
ضم الكويت
كان العدوان العراقي على الكويت خطأ بلا شكِ ومن المرجح أن أصوله كانت تعود الى التقدير غير الصحيح لطابع ونطاق ردود الفعل الذي أثاره في العالمِ
لم تزل بعد الحرب العالمية الثانية أية دولة ذات سيادة عن الخريطة السياسية نتيجة الاستيلاء أو الاحتلالِ ولا يسمح القانون العالمي المتجسد في ميثاق الأمم المتحدة بذلكِ ولم تتمكن كيفية وتدابير الضم في تضليل أحدِ
كانت وسائل الاعلام العراقية تعلن بغطرسة ان 'حكومة الكويت المؤقتة توجهت الى اخوانها العراقيين أبطال القادسية وحراس البوابة الشرقية للوطن العربي الذين يقودهم فارس الأمة العربية وزعيم مسيرتها البطولية المهيب صدام حسين بنداء طالبته فيه بالموافقة على عودة الأبناء الى عائلاتهم وعودة الكويت الى حضن الأم العراق العظيم'ِ واتخذ مجلس قيادة الثورة العراقي في اليوم نفسه قراره ب 'الموافقة'ِ وبدا كأن الكويت زالت من الوجود، والصحافة العراقية استمرت بحماس تستشهد بأقوال صدام حسين: 'عاد الفرع الى الأصل' و'عاد الغصن الى جذعه'، 'نحن الآن شعب واحد ودولة واحدة ستصبح فخرا للعرب'ِ
وكان رد فعل المجتمع الدولي سريعا وذا مدلول واحدِ ومن جانبنا أعددنا بتكليف القيادة بفاعلية نص تصريح وزارة الخارجية السوفيتية (المؤرخ في 9 أغسطس والمنشور في اليوم نفسه) الذي ثبت فيه أسفنا في أن الأمل في حل سريع للأزمة لم يحدثِ فلم يسحب العراق قواته من الكويت فحسب، بل وأعلن عمليا ضم هذا البلدِ وجاء في التصريح: 'يصعب علينا ويوجع صدورنا عندما نصف على هذا النحو أعمال العراق، البلد الذي تربطنا به علاقات ودية قديمةِ فقد أردنا الحفاظ على هذه الصداقة، غير أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن نقف ساكتين ونتصرف خلافا لضميرناِ ويبقى موقفنا حيال هذه المسألة مبدئيا وثابتا: يجب أن تعود بالكامل سيادة دولة الكويت واستقلالها ووحدتها الاقليمية'ِ
انحصرت خصوصية هذا التصريح في أنه كان مرسلا علاوة لبغداد، الى واشنطن أيضاِ لأن الحديث يدور فيها عن نشر قواتها المسلحة في السعوديةِ حيث جاء في التصريح ان 'الاتجاه الى تصعيد الأزمة يتزايد بسرعة للأسف، ويثير تطور الوضع قلق موسكو'ِ وذكر أيضا انه من المهم جدا في مثل هذه الظروف ابداء الرشد واستخدام البصيرة من أجل الحيلولة دون وقوع أعمال تحرج القضيةِ وقيل ان 'الاتحاد السوفيتي يعارض المراهنة على استخدام القوة واتخاذ القرارات من جانب واحدِ وتثبت تجارب السنوات العديدة ان أفضل طريقة لحل النزاعات هي اتحاد الجهود الجماعية وفق آلية الأمم المتحدة بالكامل'ِ
ليس من الصعب ادراك ما أثارته هذه السطورِ فقد اتخذ مجلس الأمن الذي اجتمع بطلب من الكويت والبحرين وقطر والامارات العربية وعمان والسعودية بالاجماع القرار 662 الذي أعرب فيه عن القلق العميق جراء اعلان العراق 'التوحد كليا والى الأبد' مع الكويتِ وقرر ان 'ضم الكويت الى العراق، مهما كان شكله وحججه غير شرعي وباطل'ِ ودعا مجلس الأمن جميع الدول والمنظمات الدولية الى 'عدم الاعتراف بهذا الضم والامتناع عن أية أعمال أو اتصالات يمكن تفسيرها كاعتراف غير معلن بالضم'ِ وطالب مجلس الأمن بأن 'يتخلى العراق عن كل الخطوات الموجهة نحو ضم الكويت'ِ وسمع أعضاء مجلس الأمن ردا على ذلك من ممثل العراق في الأمم المتحدة ما يلي:
'تصرح حكومتي من جديد بأن وحدة العراق والكويت لا تتزعزع'ِ وأعلن صدام حسين في 10 أغسطس في خطابه الدوري الضاج 'الجهاد' ضد كافة القوات الأجنبية في الخليجِ ودعا جميع المسلمين للانضمام اليه من أجل 'الدفاع عن المقدسات الاسلامية في مكة من التطاولات الأميركية والصهيونية'ِ
القمة العربية ومبادرة صدام
وضع ضم الكويت المعلن من بغداد حكومات الدول العربية في موقف لا يمكنها الا أن تستنكر هذا الفعلِ وبطبيعة الحال، حصل بكل ما يحمل من خصائص تتعلق بموقفي الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينيةِ وكان موقف العالم العربي موحدا بما فيه الكفايةِ غير أن هذا لا يعني ان تصرفات بعض الزعماء العرب الموالية للعراق انتهت بذلكِ كانوا يستمرون باستنكار الضم قولا وعمليا يبحثون عن صيغة قرار يرضي بغدادِ ومزجت أكثرية البلدان العربية التي لم تدخل في تحالف ضد صدام حسين موقف 'لا' المزدوج: لا لضم الكويت، لا للحضور الأجنبي في منطقة الخليج (الغربي والعربي على السواء)ِ
انشقاق سياسي
أضعف الانشقاق السياسي الناشئ في العالم العربي بحدة امكانية التأثير على الوضع في الاقليمِ فلو قام جميع رؤساء الدول العربية بالضغط المتفق عليه على بغداد، لكان بامكان ذلك تحويل مجرى الأحداث نحو الحل السلميِ
ومع ذلك، كانت موسكو تعلن عن أسفها للانشقاق الحاصل والذي أصبح واقعاِ واستمرت بعملها النشيط معللة نفسها بآمال باهتة لكي لا تسقط دور العامل العربي من الحسبانِ وانطلاقا من هذا، أعدت وزارة الخارجية السوفيتية عندما علمت عن عقد لقاء القمة العربية الاستثنائي في القاهرة خطابا (أقره ميخائيل غورباتشوف) موجها للرئيس المصري حسني مبارك جاء فيه ان الاتحاد السوفيتي اتخذ منذ البداية موقفا واضحا وثابتاِ وأشير في الخطاب الى أن موقفنا ليس فيه أي شيء معاد للعراقِ بل العكس، كنا نسعى لمساعدة العراق للخروج بأدنى خسارة من الوضع الذي أوقع نفسه فيهِ ومن وجهة نظرنا، سمح تنفيذ قرار مجلس الأمن 660 بالتوصل الى هذا بلا اهانة لهيبة العراقِ وأعرب الرئيس السوفيتي عن ترحيبه بعقد لقاء رؤساء الدول العربية العاجل وتمنى له النجاح في البحث المشترك عن امكانية اخماد الحريق في الخليج واعادة السلام والاستقرارِ ولكنه وانطلاقا من عدم تعديل بغداد لتصريحاتها، لم تقبل القيادة العراقية كما كان ينبغي لقاء القمة العربية ودروسهِ وبدلا من ذلك، بدأ نضالها من أجل تعبئة الرأي العام العربية واثارة عواطف 'الشارع العربي' بنشاطِ
وأعتقد ان علينا أن ننظر الى مبادرة صدام حسين المعلنة في 12 أغسطس من هذا الجانب، والتي حددت هدفين: 'المساعدة على اقامة السلام الحقيقي في المنطقة واعادة الاستقرار اليها وكشف خداع الولايات المتحدة وحليفتها الحقيرة اسرائيل وكشف النقاب عن خدمتها للجرائم التي ترتكبها'ِ وبسط مضمون المبادرة في ثلاث نقاط: الأولى، اقترح بسبب تقادم الأحداث، انسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية ومن ثم انسحاب القوات السورية من لبنان وأخيرا انسحاب القوات العراقية والايرانية من الأراضي التي تحتفظ كل منها بهاِ وبعد كل ذلك يمكن مناقشة مسألة الكويت، ولكن 'مع الأخذ بنظر الاعتبار حقوق العراق التاريخية في الكويت وخيار شعب الكويت'ِ الثانية، انسحاب القوات الأميركية والقوات الأخرى من السعودية واستبدالها بقوات عربية حسب خيار مشترك للعراق والسعودية وبعدم مشاركة مصرِ وطالبت النقطة الثالثة بتجميد كافة تدابير المقاطعة والحصار ضد العراق بلا تأجيلِ
محاولة للمماطلة
رفضوا في الغرب فورا مبادرة العراق وقدروها كمحاولة رامية للمماطلة في مسألة تخص الكويت بتقديم مشاكل التسوية العربية ـ الاسرائيلية التي يصعب حلهاِ وبالفعل لم تلق المبادرة بشكلها وبمضمونها قبولا آخرِ فقد توجهت الى المستمعين العرب وفي العراق نفسه، آخذة في الاعتبار استثمار العواطف العربية تجاه القضية الفلسطينية والكراهية المنتشرة بصورة واسعة ضد الولايات المتحدة في العالم الثالث على السواءِ وقرروا في بغداد بعد أن اقتنعوا بأن واشنطن انتقلت بحدة وحزم من سياسة مداعبتها الى معارضتها بأنه لم يبق لها شيء سوى رفع علم معاداة الولايات المتحدةِ وحصلت بغداد على مردود سياسي معين من ذلك بلا شك، بل أكثر منهِ
فمن المفهوم أن منظمة التحرير الفلسطينية رحبت بحماس بالمبادرة العراقية، بيد أن صوت هذه المنظمة فقد سمعته لوقت ما عندما شهرت بها مساندتها الاستيلاء على الكويتِ
وطرح أمام موسكو السؤال: كيف ينبغي الرد بالفعل على هذه الحالة؟ لم نرد التزام الصمت ولا ينبغي أن يحصل هذاِ فقد كانت تطرح مختلف الأسئلة من الصحافيين واهتم العراقيون أيضا بموقفنا من مبادرة رئيسهم 'التاريخية'ِ وفي رأيي أن صدام حسين دخل في ورطة لعدم واقعية مبادرته والتهديدات التي حملتهاِ وكان فيها شيء مفيد واحد: الاشارة الى عدم تسوية النزاع العربي ـ الاسرائيليِ وبما أن الاتحاد السوفيتي كان يقدم خلال سنوات عديدة أفكاره الخاصة بعقد مؤتمر دولي لمناقشة التسوية الشاملة في الشرق الأوسط، فإن ذلك ذكر بمقترحاتناِ ولأن مشكلة الكويت خرجت الى الواجهة السياسية وتتفاقم أكثر فأكثر، فقد كانت تغلف في جوهر الأمر، فرصة الانتقال للنظر الى المشكلة العربية ـ الاسرائيلية العتيقة والمؤلمةِ
لم تستنكر موسكو المبادرة ولم تمدحها علانيةِ وكان أدوارد شيفرنادزه يجيب عن أسئلة الصحافيين على النحو التالي تقريبا: 'أظن ان ثمة عناصر تستحق الاهتمامِِِ ندرس تفاصيل خطاب الرئيس العراقي كافةِِ غير أننا كنا نعطي في أحاديثنا مع العراقيين تقديراتنا الصريحة تماما على هذه المبادرةِ وأشرنا الى خطر نهج بغداد في المماطلة لحل النزاعِ وكانت المبادرة موضوع حديثي مع السفير العراقي في 16 أغسطس حيث أشرت الى نقاط الضعف فيها وقبل كل شيء المطالبة بسحب القوات المتضمنة في المبادرة باحتلال أراضي الغيرِ وكذلك استشهدت من جديد ب 'حقوق العراق التاريخية' في الكويت واضطررت للادلاء بوجهة نظرنا في خطورة هذه الاشارةِ وأكدت للسفير اننا لا نستطيع الموافقة على ضم الكويت ونرى على وجه العموم ان استناد السياسة المعاصرة على حجج قديمة من أجل تخطيط الحدود أمر خطير للغايةِ وضربت له مثلا من التاريخ الروسي، فقد كانت فنلندا وبولندا قبل الحرب العالمية الأولى تدخلان في قوام الامبراطورية الروسيةِ بينما لا يشك أحد الآن، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي في استقلالهماِ وثمة الكثير من الأمثلة من هذا القبيلِ فقد نشأت العشرات من الدول المعاصرة على أنقاض الامبراطوريات السابقةِ ويكون من غير الشرعي الغاؤها من الخريطة السياسية أو وضع متانة الحدود المتكونة تحت الشكِ واعتبرنا هذا مبدأنا الأساسي وكنا ندافع عنه وسندافع عنه في المستقبل أيضاِ واذا خرق أصدقاؤنا هذا المبدأ فسنقول لهم بصراحة اننا لا نسلم بذلك'ِ وسأعود لاحقا الى مبادرة العراق المؤرخة في 12 أغسطسِ
وما أن أعلن صدام حسين مبادرته 'للتسوية الشاملة'، زار الملك حسين واشنطنِ وكان قد زار بغداد قبلهاِ حاول العاهل الأردني امالة الرئيس بوش الى تأييد المبادرة العراقية ولم ينجح في ذلك بطبيعة الحالِ وعرف بوش في النتيجة ان الملك حسين يلعب دور شفيع بغداد، وأدى ذلك الى تبريد العلاقات الحارة جدا بين البيت الأبيض والملك الأردنيِ

نتائج القمة العربية

استمر لقاء القمة يومين (9 و10 أغسطس) بشكل عاصف ومتوتر وساعد على ذلك سلوك الوفد العراقيِ لم يصل صدام حسين الى اللقاء وان كان مدعواِ وقوض غياب الرئيس العراقي في لقاء القمة فرصة البحث العملي عن القرار المقبول ودلت طريقة ظهور الوفد العراقي نفسها في القاهرة على الكثيرِ فقد وصل الوفد العراقي الى القاهرة بصحبة مائة جندي مزودين بالبنادق الرشاشةِ
وبالرغم من سلوك ممثلي العراق القاسي وعملهم النشيط في أروقة اللقاء، لم يتسن لهم تحقيق مهمتهم الرئيسية وهي الحيلولة دون اتخاذ قرار رسمي للقمة حول جوهر المسألة الخاصة بالكويتِ زد على ذلك، ساعد عدم الرغبة العنيفة للمصالحة التي أبداها العراقيون في لقاء القمة في تكتل أكثرية رؤساء الدول العربية ضد العراق وخاصة فيما يخص مستقبل الكويت كدولة مستقلةِ
وأكد لقاء القمة على قرار مجلس جامعة الدول العربية المتخذ في 3 أغسطس وعلى بيان منظمة المؤتمر الاسلامي المؤرخ في 4 أغسطس وأشار الى طابع القرار 660 الالزامي لمجلس الأمن واستنكر العدوان على الكويت وأقر عدم الاعتراف بضمها مؤكدا على سيادة الكويت واستقلالها وأيد عودة حكومتها الشرعيةِ وأصبح قرار القمة العربية الخاص 'بالرد ايجابيا على طلب السعودية وبلدان الخليج العربية الأخرى بارسال القوات المسلحة العربية لأجل مناصرة قواتها الخاصة من أجل الدفاع عن أراضيها وأمنها الاقليمي من أي تدخل خارجي'، ظرفا جديدا ومبدئياِ وبارك لقاء القمة بذلك انضمام القوات المسلحة العربية الى القوات متعددة الجنسياتِ ومنذ الآن فلن تواجه القوات العراقية القوات المسلحة الأميركية فحسب، بل ستواجهها أيضا القوات العربية التي لا تقع في الخليجِ وأضفي الى تلك القوات المتشكلة 'ايميج' التحالف الدولي الذي تمتع بتأييد سياسي من قبل المنظمة العربية الرئيسيةِ
صوت مع هذا القرار 12 بلدا عربيا وعارضته ليبيا والعراق وامتنع عن التصويت الأردن واليمن والجزائر وأعلن عن تحفظات مختلفة كل من السودان وموريتانيا ومنظمة التحرير الفلسطينيةِ ولم تشترك تونس في لقاء القمةِ
وكان توزيع الأصوات في لقاء القمة دليلا بالطبع، على انعدام الوحدة في العالم العربيِ غير أن انعقاد القمة بحد ذاته وطبيعة قراراته دل على أن العالم العربي لا ينوي التسليم بما فعلته بغداد متخذا نهج الضغط عليها بغية دفعها للانصراف من الكويت اختيارياِ
أردنا أن تقبل بغداد بقرار قمة القاهرةِ وأعلنا تقديراتنا لنتائج القمة في بيان وزارة الخارجية السوفيتية المؤرخ في 11 أغسطس والذي جاء فيه: 'نرحب بادراك العرب لدورهم ومسؤوليتهم بمصير السلام والاستقرار في الشرق الأوسط وعن ضرورة حل الأزمة الناشئة في الخليج بأسرع وقت ومنع تحويلها الى حريق كبير سيلحق خسائر باهظة بمصالح الشعوب العربية والأمن والسلام الدوليين'ِ
وشددت جامعة الدول العربية موقفها من العراق في 31 أغسطسِ حيث لم تطالب بخروجه من الكويت فحسب، بل بدفع التعويضات لها مقابل الخسائر التي ألحقتها بهاِ وكان ذلك ردا على أولئك العرب الذين اقترحوا ان يحصل العراق على مبلغ ما لقاء انصرافه من الكويتِ