الأربعاء، 8 يونيو 2011

لماذا رفضت روسيا مشروع العقوبات الذكية ؟

كان نائب رئيس العراق طه ياسين رمضان واثقا عند مغادرته قاعة إيكاترينا الثانية في الكرملين بعد لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن روسيا ستستخدم حق النقض الفيتو للمرة الأولى من أجل العراق لإفشال مشروع العقوبات الذكية ، وبالرغم من أن بوتين لم يقلها بالفم الملآن ، إلا أن رمضان وضع في يمينه مشاريع لا نهائية في العراق وعلى يساره عقد الطلاق مع موسكو ، منتزعا عبارة هامة من الرئيس الروسي : 'ستعمل روسيا كل ما بوسعها لدعم الموقف العراقي'ِ
وما حصل لم يكن إنذارا بالمفهوم العراقي من قبل رمضان ، ولم يكن وعدا بالعرف السياسي - الدبلوماسي من جانب بوتينِ ومع ذلك فقد أوفى بوتين بوعد لم يقطعه على نفسه وأوصل رمضان رسالة صدام كما يجبِ
والموقف الروسي الرافض للمشروع البريطاني - الأميركي بشأن العراق لا يمكن حصره بالعلاقة بين روسيا والعراق فقط ، بل ان الأمر يتعدى ذلك للوصول الى حالة من " تصفية الحسابات " بين الدول الكبرى نفسها وخاصة روسيا والولايات المتحدةِ
وعليه ينبغي النظر الى الأمر من جوانبه المتعددة والتي يمكن حصرها كالتالي :

تتقاطع المصالح والأفكار الروسية في أكثر من موقعة مع الاميركية وفي ما يلي أهم نقاط الخلاف الجوهرية بين البلدين والتي تنعكس على مجمل مواقفهما بما في ذلك العراق :
- أزمة الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ التي وصلت الى طريق مسدودِ
- القرار الأميركي الأخير بعدم تمويل المحطة الفضائية الدولية 'ألفا' التي تعول عليها روسيا كثيرا في إدارة أقمارها الصناعية بعد استلامها ضمانة أميركية بالإشراف على ثلاثة أماكن في المحطة من سبعة في حالة إغراق المحطة الفضائية 'مير'، الأمر الذي وضع الروس في زاوية ضيقة في الفضاء بسبب الموقف الأميركيِ
- النزعة الاميركية المعروفة بفرض قراراتها على الآخرين دون استشارتهم أو موافقتهم كما حصل في مواقف كثيرة مختلفةِ وإذا كان الأمر قد سرى مفعوله في الحقبة اليلتسينية فان فريق بوتين لا يمكنه التغاضي عن ذلك ، خاصة بعد إعلانه أكثر من مرة رفضه لسياسة القطب الواحدِ
- اقتراب مواعيد تنفيذ العقود العسكرية والعسكرية - التكنولوجية مع إيران ، السبب الذي وجدته روسيا فرصة للعب بالورقة العراقية وعدم انتظار الهجوم الأميركي بشأن التعاون الروسي - الإيراني الذي سيكون على أشده حسب توقع موسكوِ ويعتقد الروس أن التلويح بالورقة العراقية دائما سيسهل لها المرور الى الخليج عبر إيرانِ
- تقاطع مصالح البلدين في مناطق شمال القوقاز وما وراءه وخاصة في جورجيا وأذربيجان وآسيا الوسطىِ والإلحاح الأميركي باعتبار الإقليم خاضعا لمصالحها الحيوية ، هذه المسألة التي تقض مضاجع الروس أكثر من غيرهاِ
- تطور العلاقات السياسية والعسكرية بين الناتو ودول البلطيق ، وتعد موسكو ذلك تجاوزا للخطوط الحمراء المتفق عليها في معاهدة باريس (مايو 1998) التي حدد على أساسها شروط انضمام ثلاث دول جديدة الى حلف الأطلسيِ يذكر أن أحد هذه الشروط كان عدم التفكير بضم دول البلطيق الى الناتوِ
- إيقاف كل المساعدات الاميركية المتفق عليها للكثير من المؤسسات الروسية وخاصة تلك التي تحول الصناعات العسكرية الى مدنية وكذلك في مجال إطلاق الصواريخ الحاملة للأقمار الصناعية وعدم وجود استثمارات أميركية جدية تعزز الاقتصاد الروسيِ
- محاولات الأميركان المستميتة لإخراج روسيا من عملية السلام في الشرق الأوسط، يقابل ذلك فشلها للتوصل الى أدنى اتفاق بين الأطراف المتنازعة، شجع الروس لدعم الموقف العراقي لكسب الشارع العربي الغاضب على الموقف الأميركي واللامبالي للموقف الروسيِ
- الموقف الأميركي والخليجي السلبي من المشروع الروسي لمنظومة موحدة لأمن الخليج التي طرحها ايغور ايفانوف كثيرا أثار ضغينة روسيا التي اعتبرت إدامة العقوبات ضد العراق 'لن تؤدي إلا الى مفاقمة الوضع في منطقة الخليج ' كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية الكسندر ياكوفينكو في تصريح أطلقه قبل ساعة واحدة من التصويت على العقوبات الذكيةِ وأشار تأكيدا للضغينة الروسية بشأن منظومتها الأمنية في الخليج الى أن 'الدول المجاورة للعراق وغيرها من دول المنطقة أيضا ترى في المخطط الجديد تهديدا لاستقرارها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي'ِ
العوامل الروسية الداخلية
- سعي بوتين لتأكيد وجوده كحامل لما يسمى 'الفكرة الروسية' وصانع أمجاد البلاد الضائعة بسبب سياسة الإصلاح الليبرالية التي عزلت روسيا وحطت من شأنها في المحافل الدولية وبدون مقابل مادي ملموس للشعب الروسيِ
- الرد على تضييق الخناق المفروض على روسيا في كل المنظمات الدولية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة ابتداء من الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسي وانتهاء بمجموعة السبع الكبارِ
- محاولة فريق بوتين للم صفوف من يدعون أنفسهم ب 'الوطنيين' لحشرهم في خندق حزب السلطةِ ومعروف أن لهؤلاء الوطنيين مواقف ثابتة تدعم النظام العراقيِ
- المصالح الاقتصادية والسياسية الكبيرة لروسيا في العراق التي جاءت العقوبات الذكية لتهمشها وتجعلها تحت سيطرة لجان الأمم المتحدةِ وفي هذا الإطار يمكن النظر الى مشروع العقوبات الذكية وما يسببه في إيذاء هذه المصالحِ
المشروع بحد ذاته
تعترض روسيا على المشروع لكونه يسبب لها ولشركاته الكثير من المتاعب وقال ايغور ايفانوف ذلك صراحة في رسالته الى كولن باول 'إننا نرى في المخطط الجديد تهديدا خطيرا لمصالح روسيا التجارية والاقتصادية في العراق'ِ ويمكن تفسير عبارة الوزير الروسي تاليا :
أولا ، في الفقرة الأولى تكون عبارة 'السماح لكافة الدول بأن تبيع للعراق أو تمده بأي سلع ومنتجات تجارية' تسحب البساط من تحت أقدام الشركات الروسية التي تتمتع بدون هذا البند بالسماحِ وتشعر روسيا أن وجود مثل هذا الشرط يعني أن لجان الأمم المتحدة ستفرض شركات أو بلدانا لتدخل في منافسة مع الشركات الروسية التي لا تستطيع المنافسة إلا بدعم عراقيِ خاصة أن هذه الفقرة تحتوي على جملة تسمح للأمين العام وبالتنسيق مع خبراء يونموفيك بتحديد الأصناف المحددة في إطار القائمة المقترحة وتتطلب أخذ الإذن المسبق بشأنها ، هذه المسألة تعقد كثيرا العقود الواقفة أصلا والتي أبرمتها روسيا مع العراقِ بالإضافة الى أن هذه الفقرة تمنح لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتفتيش والمراقبة يونموفيك صلاحيات جديدة ، ويرى مندوب روسيا في الأمم المتحدة سيرغي لافروف أنه يمكن أن يجعل ذلك من اللجنة آلية للتحقق من فرض العقوبات الذكية وهو ما يعيق يونموفيك عن الاضطلاع بمهمتها الأصلية وهي مراقبة نزع السلاح في العراق فقطِ
ثانيا ، تسمح الفقرة الثانية للعراق بإبرام عقود للخدمات ولبعض القطاعات وليس لأغراض الاستثماراتِ وفوق ذلك تشترط العقوبات موافقة مجلس الأمن على كل عقدِ وهذا بالطبع يتعارض بشدة مع الخطط الروسية - العراقية والاتفاقية البعيدة الأجل التي وقعها طه ياسين رمضان في موسكو والمنتظر توقيعها مع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل كاسيانوفِ لأن هذا البند يحرم على العراق توقيع اتفاقيات دولية شاملة ويحرم عليه طلب الاستثمار من هذا البلد أو ذاكِ وحسب تعليق مسؤول روسي على هذه الفقرة قوله انها وضعت خصيصا ضد روسيا وخططها المستقبلية في العراقِ
ثالثا ، تحدد العقوبات الذكية ضمن فقرة 'الدول المجاورة' للعراق آلية تصدير العراق للنفط وكمياتهِ بمعنى تضييق الخناق على عمليات التهريب (النفط والسلع الأخرى) وإذا علم أن معظم عمليات التهريب تقوم به المؤسسات الإجرامية والمافيا الروسية بالتنسيق مع دوائر معروفة بالمنطقة والعائلة الحاكمة في العراق ، فان هذه الفقرة ستؤذي هذا العمل غير الشرعي الذي يعيل الكثير من الرؤوس الكبيرة في روسيا وأذرعها في المؤسسات الحكوميةِ
رابعا ، تعطي الفقرة الخامسة للأمين العام الحق له وحده لوضع 'معايير لاختيار الشركات التي يخول لها التعامل في بيع النفط العراقي'ِ وهذه الفقرة تهدم كما هو واضح كل ما بنته روسيا طوال سنوات الحصار وتشل حركة الشركات الروسية التي تمتلك حصة الأسد من النفط العراقي مقابل الغذاء والتي حاكت علاقاتها بمساعدة القيادة العراقيةِ وعليه فستظهر 'شركات مخولة' و'شركات غير مخولة' وهذا وحده يعني تدمير شبكة الشركات النفطية الروسية في المنطقة ووضعها هي الأخرى تحت رحمة لجان الأمم المتحدة ، في وقت تستمر الآن في برنامج النفط مقابل الغذاء العمل بمطلق الحرية بدون الأمم المتحدة ووصايتهاِ
خامسا ، لم تأخذ العقوبات الذكية الطلبات الروسية الخاصة بتقليل نسبة خصم التعويضات الى 20 % وأبقتها كما هي عليه 25 - 30 % وحسب ما يقره مجلس الأمنِ ناهيك عن طريقة توزيع التعويضات التي كانت روسيا دائما تعترض عليهاِ
سادسا : تسمح العقوبات الذكية للطائرات المدنية غير العراقية فقط للهبوط والإقلاع من العراق ، وهذا يتعارض تماما مع الموقف الروسي الذي لا يرى أي قرار صادر عن الأمم المتحدة يحظر طيران العراق المدنيِ ووجود هذه الفقرة يعني تأكيد حظر الطيران المدني غير الموجود أساسا على العراق ، في وقت تحاول شركات الطيران المدنية الروسية الدخول في هذا السوق في العراق منذ زمن طويل ونجحت في هذا الجانب الى حد بعيدِ
سابعا ، تعترض روسيا على وجود مفتشين دائمين في النقاط الحدودية والمطارات العراقية ، لأن هذا سيعيق عملية التبادل التجاري والتهريب الذي تقوم به شركاتهاِ
ثامنا : تعتقد روسيا بأن مشروع العقوبات الذكية يفتقر الى تعريف واضح للسلع ذات الاستخدام المزدوج ، وهي التي لا يسمح بتوريدها الى العراقِ
وعودة الى رسالة ايفانوف الى باول من السهل التوصل الى أن السياسة الروسية حيال العراق لا تتحكم فيها الأولويات الاستراتيجية وتراجيديا الشعب العراقي بقدر ما تحكمها الاعتبارات التجارية والاقتصادية المتعلقة بهذا البلدِ وهذا ما يسعى إلى تحقيقه بالضبط صدام حسين خلال الأعوام العشرة الأخيرةِ
ترحيب وهجوم
لم يكن بالصدفة أن تكون روسيا أول المرحبين بتأجيل التصويت على العقوبات الذكية في بيان رسمي أصدرته الخارجية ، معتبرة المشروع في شكله الحالي لا يمكنه حل الأزمة المحيطة بالعراقِ ومع ذلك لم يفت القائمين على رسم السياسة الروسية التلميح بموافقتهم على أي مشروع " يتيح مناقشة هادئة لكل المقترحات بشأن السياسة التي يتعين انتهاجها بهدف حل المشكلة العراقية " كما جاء في نص البيان الذي يفسر كالتالي : سنوافق على أي مشروع لا يمس مصالحنا في العراق ، بمعنى أن روسيا ستوافق على أي مشروع لا يمس مصالح شركاتها وليس بالضرورة أن يكون هذا المشروع " مجحفا " بحق الشعب العراقي الذي يتباكون عليه في روسيا أكثر من أي بقعة في الأرض، وليس جائزا أخذ عبارة المندوب الدائم لروسيا في الأمم المتحدة سيرغي لافروف التي أطلقها في ساعة متأخرة من ليل التصويت على العقوبات الذكية محمل العاطفة الجادة : 'إن إقرار مشروع القرار المقترح في شكله الحالي سيعيق الجهود المبذولة لإنهاء معاناة الناس في العراق ويفضي الى تدمير الاقتصاد العراقي ، لذلك لا يمكننا أن نقبل مشروع القرار هذا'ِ
في غضون ذلك ، تمارس روسيا بحذق بالغ تكتيك كسب الوقت ، فموسكو منذ أزل الحصار تلوح بالمشروع تلو الآخر 'لإنهاء مأساة الشعب العراقي' دون أن تقدم مشروعا واحدا بشكل رسمي وتكتفي لغرض كسب الوقت بالتصريحات والبيانات ، وحين يحل وقت 'المناقشات الهادئة' تعيد الى أسماع الآخرين عباراتها المكررة: الاستناد الى قرارات مجلس الأمن وضرورة تطبيق العراق لها ، استئناف تعاون العراق مع الأمم المتحدة كشرط لإنهاء العقوبات ، ينبغي تشجيع العراق مقابل كل خطوة إيجابية يقوم بها باتجاه تطبيق قرار مجلس الأمن ، عدم وضع العراق في نفق مظلم وعليه رؤية الضوء نهايته ِِِ الخ
ولكن من أية زاوية يمكن النظر الى تصويت مجلس الدوما الذي جرى في 4 يوليو الجاري بإلغاء العقوبات على العراق ؟
وكان 242 من النواب الروس في الدوما قد صوتوا في التاريخ المذكور مع إلغاء العقوبات على العراق مقابل اعتراض 3 نواب فقطِ أي أن تصويت النواب جاء بعد ساعات من تأجيل التصويت على مشروع العقوبات الذكية في مجلس الأمن ، ولا يمكن أن نحسب أن التصويت كان ضمن جدول أعمال الدورة السنوية للدوما ، بل جاء في الوقت المناسب جدا لدعم القرار السياسي الرسمي لكي يكرر قادة الكرملين على أسماع نظرائهم الغربيين مواقفهم تجاه العراق وكأنها موقف شعبي أصر عليه ممثلو الشعب وليس له علاقة براغماتية فقطِ
الصراع يستمر
سيستمر الصراع من أجل العراق كما ذكر المعلق السياسي ل 'نيزافيسميا غازيتا' ، ولواشنطن المزيد من الفرص للقيام بهجوم مضاد، فما زال مثلا ملف حقوق الإنسان في العراق والتنكيل الدموي بالقوميات والمعارضين وحتى الإنسان العراقي العادي الذي يتنفس أكثر من المعتاد قائما وطازجا ومركونا لغاية في نفس الإدارة الاميركيةِ وإذا كان العراق قد اعتبر تمديد برنامج النفط مقابل الغذاء كنصر بين لسياسته الخارجية فهو الذي أطلق عليه مطلع التسعينات بالبرنامج المشبوه والخبيثِ إذن فان المساحة التي تتحرك بها موسكو وواشنطن من السعة بحيث لا يمكن تصورها حتى لو لم يتم التوصل الى نتيجة، فالمساحة هذه والزمن كافيان لأن يخرج الطرفان باتفاق يرضي الخطة الإنكلو - أميركية والروس في آن واحد ، علما أن الروس كما ذكرنا لم يسدوا كل الأبواب ، بل تركوا كل النوافذ مشرعة أمام شركائهم الأميركان بدعوتهم لهم ب'مناقشة هادئة'ِ
ولا نستطيع الاستخفاف بالعقل الاستراتيجي الأميركي في كل الأحوال وهو العارف بعبارات الروس 'الباطنية' مثل 'المناقشة الهادئة' التي تتمتع بمطاطية خياليةِ
وفي العراق
أما الوضع في العراق فقياساته مختلفة ، فالجيران هناك يرفضون العمل بالخطة البريطانية - الاميركية والعراق يستمر في نقل النفط واستيراد المواد المطلوبة عبرها، وكما قال طارق عزيز بالرغم من عدم صدق تصريحه : 'العراق لم يواجه مشكلة عندما لم يصدر النفط في الفترة 1991 - 1996'ِ
ومن هذا المنطلق يخرج صدام حسين مزهوا بتمديد الحصار مقابل الغذاء ليفسر جملة عزيز بمنحه روسيا مزايا إضافية ، علما أن الشركات الروسية العاملة في العراق تبلغ الآن نحو 200 شركة وهذا الرقم لم تصل إليه علاقات البلدين في أوج العشق العراقي - السوفيتيِ
مسمار 50
يكثرون الحديث في روسيا وعلى أعلى المستويات بدءا برسالة وزير الخارجية ايغور ايفانوف الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ذائعة الصيت التي عدد فيها خسائر روسيا جراء الحصار على العراق وأجملها بنحو 30 بليون دولار، بما يسمى المادة 50 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تنص على أنه يمكن للبلد الذي يتضرر من عقوبات فرضتها المنظمة الدولية على بلد آخر أن يجري المشاورات المطلوبة حول ذلك في هيئة الأمم المتحدةِ
ولكن ليس بوسع أحد تفسير هذه المادة ، فالدبلوماسيون الروس يعتقدون بان إجراء المشاورات لا يعني الحصول على سماح بالتعامل مع العراق خارج منظومة النفط مقابل الغذاء في حين ترى بغداد في هذه المادة سببا لخروج موسكو من نظام العقوبات من طرف واحد يوافقها على ذلك رجال الأعمال الروس الذين تشبثوا بمسمار المادة لتنفيذ مشاريعهم الشرعية وغير الشرعيةِ ولولا الصعوبات الفنية والبعد الجغرافي لعملت الشركات الروسية في العراق منذ أمد بعيد ، كما هو حاصل في الأزمة بين بغداد وشركة 'لوكويل' الروسية التي ترفض مباشرة العمل في حقل غربي القرنة 2 لأنها لا تريد المجازفة بإحضار العمالة والخبراء والأدوات في بلد ومنطقة على حافة الهاوية ، ويؤكد الدبلوماسيون الروس في هذا الصدد على خطأ لوكويل الفادح حينما أبرمت عقدا مع العراق وعدم استفادتها من خبرة الشركات الفرنسية التي اكتفت بتوقيع عقود تخرج عن إطار النفط مقابل الغذاء ولكن بالأحرف الأولىِ
خسائر وأرباح
لقد تحدث الجميع في روسيا عن الخسائر التي تكبدتها جراء الحصار دون خروج صوت واحد يشير الى المنافع التي جلبها الحصار لهمِ وتأكيد روسيا وخلافها مع القيادة العراقية بضرورة تعاون بغداد مع الأمم المتحدة ليس لسواد عيون الشعب العراقي ، بل لأن خسائر روسيا ستزيد إذا رفض العراق التعاون مع الأمم المتحدةِ وبما أن النظام العراقي يعطي الأولوية للشركات الروسية فان قيمة العقود التي حصلت عليها روسيا في عام 2000 فقط بلغت بليونا و 200 مليون دولار وحصلت روسيا على مزيد من العقود في العام الجاري ويجري الحديث عن مكافآت عراقية لروسيا بتوقيع عقود تبلغ 17 بليون دولار ووعود بتسديد الديون العراقية لروسيا البالغة 7 بلايين دولار حسب سعر صرف الدولار في نهاية الثمانيناتِ وباعت الشركات الروسية من النفط العراقي ما قيمته 5ِ5 بلايين دولارِ
لذلك ليس من صالح روسيا فرض العقوبات الذكية على العراق لأن بغداد ستنسحب من برنامج النفط مقابل الغذاء وهذا الإجراء سينسف كل العقود الروسية الموقعة مع العراق في مجال النفط والغاز والمكنات والبناء والطاقة الكهربائية والاتصالات وغيرهاِ وحتى لو استفادت روسيا من إيقاف العراق ضخ نفطه لكون ذلك سيؤدي الى زيادة أسعار النفط ، إلا أن روسيا لا تنوي زيادة صادراتها النفطية كما قال النائب الأول لوزير الطاقة الروسية ايفان ماكلاشوف وإذا حدث نقص في السوق فأن بلدان أوبك تستطيع سدهِ وفي كل الأحوال فان ارتفاع أسعار النفط بسبب سياسة عراقية عابرة سيكون عابرا هو الآخر ولا يمكن التعويل عليه ولا يستبعد أن تغير بلدان أوبك موقفها بعد شهر أو تتجنب زيادة الإنتاج على عجلة ، لأن العراق سيعيد صادراته عندها تتراجع أسعار النفطِ
مساومات
ومع إفشال روسيا للعقوبات الذكية بدأت الصفحة الأهم لتطور العلاقات الروسية - العراقية التي افتتحها صدام حسين بعد ساعات من إعلان 'الانتصار' بتقديمه الشكر والعرفان الى روسيا علنا واعتبارها بمكرمة رئاسية الشريك الأول للعراق وصاحبة حصة الأسد في المشاريع العراقية التي تأتي ولا تأتيِ وبعثت موسكو سفير المهمات الخاصة نيكولاي كارتزوف فورا الى بغداد ليؤكد على 'ثبات موقف بلاده في نصرة العراق ورفع الحصار عن شعبه والوقوف ضد كل الإجراءات التعسفية التي تتخذها القوى الإمبريالية'ِ ويلاحظ في التصريح أنه قيل في المكان المناسب ، لكن من الشخص غير المناسب ، لأن صاحبه دبلوماسي محترف ولم يراع تصريحه الزمان بل المكان فقطِ
وتوالت قبلات شهر العسل بين بغداد وموسكو ، حيث أرسل فلاديمير بوتين برقية الى صدام حسين هنأه فيها بمناسبة الذكرى 33 لانقلاب يوليو مشيرا الى النقطة الجوهرية: 'ان التعاون والعلاقات التجارية والاقتصادية بين بلدينا سوف تتقدم بنجاح لمصالح الشعبين الروسي والعراقي'، وذكره بأن روسيا 'تعتزم من الآن فصاعدا بذل كل ما يتعلق بتسوية القضية العراقية'ِ
وهكذا أصبحت لهجة 'المساومة' واضحة في العلاقات الروسية - العراقية ، فصدام يعطي الأفضلية للشركات الروسية وبوتين يجيبه الآن فصاعدا داعما موقفهِ
غير أن آخر تصريح للرئيس الروسي قبل توجهه بساعات الى جنوا لحضور قمة الثماني يتماشى تماما مع مزاج 'السبعة' الذين ينتظرون الرئيس الغامض الذي سيحضر معهم كافة الاجتماعات بكامل الصلاحيات بحثه القيادة العراقية على التعاون مع الأمم المتحدة والسماح للمفتشين للتأكد من 'إزالة أسلحة الدمار الشامل' في العراقِ
ولهذا التصريح أكثر من معنى :
1-روسيا ترى بأنه لا رفع للحصار بدون عودة المفتشينِ وهذا ما يرفضه العراق حالياِ
2- الرئيس الروسي حذف عبارة 'إن وجدت' التي كان الدبلوماسيون الحاذقون يربطونها بعبارة 'أسلحة الدمار الشامل العراقية'ِ بمعنى أن روسيا تؤكد على لسان رئيسها بوجود أسلحة دمار شامل في هذا البلدِ
3- لا تستطيع روسيا إغضاب الدول الصناعية الكبرى في كل مناسبة من أجل العراق ومهما كان الحديث عن حجم التبادل التجاري بين العراق وروسيا فهو لا يصل حتى الآن الى نصف حجمه مع أصغر دولة أوربية كفنلندا على سبيل المثال (نحو 5 بلايين دولار) وهو لا يقارن بحجمه مع ألمانيا الذي يصل الى 20 بليون دولار في العام ، ناهيك عن العلاقات المتشعبة مع الولايات المتحدةِ
4- روسيا لا تعتزم ترك الحبل على الغارب في علاقاتها مع العراق أو ترك ذقنها بيد صدام ، فهي القادرة على لي ذراعه في الوقت الذي تحددهِ
5- التصريح مقدمة لفتح الحوار بين الرئيسين بوتين وبوش على قاعدة مفهومة هي التزام العراق بقرارات الأمم المتحدة وعدم إظهار موسكو كمحامي للشيطانِ وعلى هذا الأساس جاء تصريح مقابل للرئيس الأمريكي أوضح فيه بأنه استلم الرسالة ومهد من خلاله لهذا الحوار متمنيا أن يعيد بوتين النظر في معارضته لمشروع تعديل العقوباتِ
إغراء بحر النفط
طبقا لمعطيات المركز الدولي لدراسات الطاقة في لندن ، تقدر كميات النفط المكتشفة في العراق بحوالي 112 بليون برميل ، أي نصف احتياطي المملكة العربية السعوديةِ غير أن العراق بدأ بسياسة التنقيب عن النفط بعد تحرير الكويت مباشرة واكتشف حقولا كثيرة من النفطِ وتتضمن خطط وزارة النفط العراقية مد خط أنابيب استراتيجي من البصرة الى سورياِ وكان العراق قد انتهى من مد جزء من الأنبوب الجديد من البصرة الى النجف ومن المفترض مده ليصل الى سورياِ وستبلغ طاقة الأنبوب في المرحلة الأولى 700 ألف برميل يومياِ وسيوازي الأنبوب الجديد الأنبوب الاستراتيجي الذي يصل الى بانياس المبني في السبعينات والذي لا يخضع لرقابة الأمم المتحدة ويمر عبره يوميا 120 - 200 ألف برميل من النفط العراقي تجاوزا للعقوبات ويدر على النظام العراقي ربحا يوميا قدره 3 ملايين دولارِ
وينوي العراق أيضا مد أنبوب جديد الى الأردن ، وحسب معلومات مؤكدة فان العراق سيكافئ روسيا بمنحه حق تنفيذ المشروع للشركتين الروسيتين ترانس نفط وستروي ترانس غازِ
ويجري العراق مباحثات مع تركيا حول بناء أنبوب مشترك لنقل الغاز لا يجد أمامه سوى شركة الغاز الروسية العملاقة غاز بروم لتنفيذهِ
وتدرس وزارة النفط العراقية مع الروس مشاريع التنقيب عن النفط في بادية الرمادي قرب الحدود مع الأردن وستحصل الشركة الروسية ترانس غاز على القطاع 4 في هذه المنطقة بينما ستحصل شركة روسية أخرى هي تاتنفط على القطاع 08 وبدأت شركة زاروبيج نفط الروسية بحفر الآبار في شمال العراق في حقل أطلق عليه 'صدام' لأول مرة بعد أن كانت الشركات الروسية تحتكر العمل في جنوب العراق والفرنسية في شماله ، ويأتي إخراج الروس للفرنسيين من شمال العراق مقدمة لتوضيح السياسة العراقية تجاه روسيا وفرنسا وبالذات علاقاتهما ومواقفهما من العقوبات الذكيةِ
وثمة أمر تجدر الإشارة إليه يخص الشركات الروسية 'المحترمة'ِ فهذه الشركات تدير أغلب مشاريعها الكبرى بفضل القروض التي تحصل عليها من الغرب (وبالأخص الولايات المتحدة) في وقت لا تأمل فيه الحصول على هذه القروض من البنوك الروسيةِ بمعنى آخر أن ليس من مصلحة روسيا توتير علاقاتها مع الولايات المتحدة بسبب هذا القرار أو ذاك أو هذه النزوة أو تلك للسيد الرئيسِ لهذا السبب بالذات حرصت روسيا والرئيس بوتين على الحفاظ على هذه الشعرة البلازمية في علاقاتها مع العراق من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرىِ وموسكو تتحسب كثيرا قبل الإقدام على خطوات صريحة باستخدام الفيتو أو الخروج من طرف واحد من نظام العقوبات وتكتفي بترضية النظام العراقي بقرارات مجلس الدوما التي ينتهي مفعولها عند البوابة الرئيسية للبرلمان وتهدأ الطرف الآخر بحثها العراق على التعاون مع الأمم المتحدة وتطبيق قرارات مجلس الأمنِ
روسيا والخليج
ثمة رأي يقول ان موسكو ستخسر علاقاتها مع دول الخليج مقابل التقرب من بغدادِ غير أن مثل هذا الرأي يواجه صعوبات جمة عند معالجة النقاط التالية :
1- أن العلاقات الروسية - العراقية قديمة وتقليدية وليست وليدة العقوبات الذكية وتفهم دول الخليج ذلك جيداِ
2- كل الوفود الكويتية التي زارت موسكو تخرج منها راضية مطمئنة ولم يصدر تصريح روسي واحد في تاريخ العلاقات الثنائية أغضب القيادة الكويتية بشكل مباشرِ وسعت روسيا دائما على ضمان أمن وسيادة الكويت وهي المبادرة على حث القيادة العراقية بالاعتراف بالحدود الدولية لدولة الكويت التي أقرها المجتمع الدوليِ وعلى عكس علاقاتها مع بغداد فالمواقف الروسية - الكويتية تتطابق دائما عدا حالة طارئة واحدة هددت بتعكر العلاقات الثنائية سارعت الكويت الرسمية بتلافيها بسرعة البرق والمقصود هنا الموقف الشعبي من أحداث الشيشانِ وفيما يخص التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية فان هذا الملف موضوع على الرف منذ زمن ، الأمر الذي يشجع روسيا للمضي قدما باتجاه بغدادِ وبالمناسبة حتى لو نفض أحدهم الغبار عن هذا الملف فان ذلك لن يغير في الأمر شيئا بعد أن فات الأوانِ
3- تربط موسكو وأبو ظبي علاقات براغماتية كافية وبينهما تعاون حسن في مجال السياحة والعسكري - التكنولوجي والفضاء والاتصالات والنقل وغيرها ولم يدخلا يوما في مساجلة سياسية ويبدو أن الطرفان لم يرغبا التحدث في السياسة بعضهما مع البعض الآخر ، ولهذا السبب طردت الإمارات موفد الرئيس الشيشاني سليم خان يندرباييف بشكل حضاري عندما شعرت بتضايق موسكوِ