الخميس، 9 يونيو 2011

الكرملين وأزمةالكويت- الحلقة الأخيرة (31)


إذن، استغرقت بغداد في الأخطاء الفاحشة للغاية حول تقدير الأوضاع وتوزيع القوى واعتدت على الكويتِ وكان رد الفعل ضدها فوريا وواضحا تماماِ ولم تكتف بالأخطاء الأولى فحسب، بل قامت بسلسلة من الخطوات أحرجت موقفها أكثر فأكثرِ
وبعد الاستيلاء على الكويت، لم يعق بغداد شيء من الترقب وتحليل ما يحدث لمعرفة كيفية التصرف فيما بعدِ وكان العقل الواعي والسليم يتطلب تحديد موقف جدي للغاية من قرار مجلس الأمن الأساسي الأول، وبالأخص من القرار الثاني الذي فرض العقوبات الاقتصادية، والاستنتاج بأن مواجهة المجتمع الدولي بأسره خاسرة أساساِ
امتلكت بغداد في تلك اللحظات الكثير جدا من الإمكانات لكي تنظم بصورة جميلة الإحجام عما دبرِ وبرزت إمكانات الحصول على شيء ما عن طريق المحادثات اللاحقة مع آل الصباحِ وبدلا من هذا نزعت بغداد قناعها كنصير للكويت الحرة وأعلنت عن ضمها، وقطعت بالفعل طريق الحياد بمبادرتها الخاصةِ
أذهلت هذه الخطوة العالم بطابعها المتحدي وعدم عقلانيتها من ناحية الحقيقة واختيار اللحظة على السواءِ وهكذا حرضت بغداد تلقائيا العالم على نفسها أكثر، لأنها لم تمثل الجانب الذي التجأ لخرق القانون الدولي واستخدم القوة فحسب، بل كغاز لبلد آخر أيضاِ
أتذكر أنني كنت مذهولا جدا من جراء تلك اللامبالاة الهادئة التي تلقت بها بغداد ردود الفعل على أعمالها في العالمِ هل كانت هذه رغبة اللاعب الذي اعتزم المخاطرة بكل مبلغه في البنك، عدم رؤية الوقائع، الثقة بعد ارتكاب الخطأ، الاستخفاف المتعجرف بآراء الآخرين، عدم القدرة على الاعتراف بالخطأ، أو مزيج غير مألوف لهذه العناصر وعناصر أخرى؟
لقد كانت محتويات الأحاديث مع طارق عزيز وسعدون حمادي وأحاديث قادة الدول الأخرى ورجالها تفرض أسس ما ذكرناهِ ومهما كان الأمر، كانت بغداد في كل خطوة جديدة لها تكدس الخطأ تلو الآخر وتحرج وضعهاِ نشير على سبيل المثال الى اختطاف الرهائن، التدخل في مقرات السفراء وحصار السفارات في الكويت، نهب البلد المحتل، التعسف والتهكم ضد الكويتيين، التهديد بنسف كافة آبار النفط في الخليج واستخدام الأسلحة الكيميائيةِِِالخِ هذه الأفعال كانت تؤلب التحالف وتكثر من صفوفه وتوطد الانطباع بأنه لا يمكن إرجاع بغداد الى صوابها إلا بالقوةِ

مراهنات خاطئة

يمكننا التسليم بأنهم في بغداد تمكنوا في مرحلة المواجهة الأولى، عندما بدأت القوات المتعددة الجنسية ترابط في الجزيرة العربية، من التفكير في أن كل شيء سيتحدد كإجراء للدفاع عن السعودية ولم يروا أبعد من ذلك مما ينتظرهمِ وسلكوا تجاه مجلس الأمن العناد والتحديِ ولكن ألم يصبح الأمر واضحا عندما أعلنت الولايات المتحدة زيادة تشكيلاتها العسكرية في منطقة الخليج بنحو 200 ألف شخصِ
وكنا ننذر ممثلي القيادة العراقية في موسكو باقتراب الحرب وهزيمة العراق الحتميةِ فلماذا عاندت بغداد؟
ثمة عدة تفسيرات لذلكِ أولا، لا يستبعد أن بغداد كانت تقدر الاستعدادات الأميركية وباقي الحلفاء كأعمال للتخويف، وتعتبر تهديداتهم للانتقال الى مرحلة استخدام القوة بالبلفِ وبعبارة أخرى، كانوا يعتقدون حتى لحظة معينة متجاهلين جميع الشواهد، بأن جورج بوش لن يستخدم السلاح خوفا من ان ذلك سيؤدي الى خسائر كبيرة في الأرواحِ لا سيما وأن بعض وزراء الدفاع السابقين والجنرالات المتقاعدين توقعوا وصول الخسائر بالأرواح الى 20 - 30 ألف شخص وحتى أكثر من هذا الرقمِ وكانت بغداد تمعن في زيادة هذه المخاوف بتلويحها باستخدام السلاح الكيميائي والضربات الصاروخية وأفعال إرهابية وخراب هائل في المنطقةِ
ثانيا، يمكن لبغداد أنها استنتجت من خصائص الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، حيث كان الديموقراطيون يسيطرون على الكونغرس بمواجهة الرئيس الجمهوري والكثير من المقالات الانتقادية في وسائل الإعلام ضد الإدارة الأميركية والنقاشات الحادة التي جرت بالأخص حول استخدام القوة ضد العراق بأن هذا عامل لصالحهاِ
ثالثا، من الممكن أن بغداد كانت تراهن على عدم متانة التحالف وتمني نفسها بزعزعته خاصة بعد استخدامها مشكلة الرهائنِ وحاولت بغداد المساومة مع السعودية وقامت بخطوات ملموسة مع دول أخرىِ
رابعا، يمكن أن بغداد كانت تريد استعمال عامل الوقت الذي كان يعمل في درجة معينة لصالحهاِ من جهة تقريب المرحلة الى وقت غير ملائم لشن الحرب بسبب رمضان والحج وظروف الطقس الرديئةِ ومن جهة أخرى فإن الزمن سيضاعف مشاكل التحالف المالية والتكاليف الأخرى المتعلقة بإعالة القوات المتعددة الجنسية في منطقة الخليج وإنفاق مليارات الدولارات عليهاِ وافترضوا في بغداد أنهم لو استطاعوا تأجيل الحرب حتى فبراير فلن تحدث أبداِ
وهكذا، لم يتحقق أي من هذه التقديراتِ حيث حصل الرئيس بوش على موافقة الكونغرس بدون صعوبة وثبت التحالف نفسه كالصخرة وفشل رهان بغداد في جر إسرائيل الى الحرب وإضفاء صفة جديدة لها بهذه الطريقةِ
وأخيرا، لم تهب دولة عربية واحدة لنجدة بغداد وكان رد فعل 'الشارع العربي' معتدلا تماما ومخيبا لتأكيدات طارق عزيزِ
لم يحدث هذا الفشل لتقديرات بغداد بحد ذاتهِ فقد كان كل فشل نتيجة جهود جبارة من جانب إدارة بوش والمشاركين الآخرين في التحالفِ ولعب وضع الرأي العام العالمي دوره في الميل لصالح استخدام القوة مع تفاقم أخطاء بغدادِ
وعندما أصبحت الحرب الجوية ضد العراق واقعة فإن عناد بغداد في رفض ترك الكويت كان خطأ فاحشا للغايةِ ومن المحتمل أن القيادة العراقية كانت تبني الآمال على أن الأمور في البر ستسير بشكل أحسن بالنسبة إليها مما هي عليه الحال في الجوِ ومن المعلوم أن بغداد كانت تؤكد على الدوام قبل بداية مرحلة الحرب الجوية بأن الحرب على الأرض ستكون طويلة وستصاحبها خسائر هائلة بالأرواح للأميركانِ لا يعرف فيما إذا كانوا في بغداد يثقون بالفعل في ذلك أم لاِ فقد هيأت المرحلة الجوية من الحرب بيسر إتمام المرحلة البرية بنجاح بالنسبة إلى التحالفِ

العلاقات السوفيتية ـ العراقية

كان بين الاتحاد السوفيتي والعراق نوع من العلاقات الخاصة وقضت مبادئ معاهدة الصداقة والتعاون المعقودة بينهما عام 1972 بإجراء المشاوراتِ ويبدو أنهم في بغداد انطلقوا من حقيقة لو تم حتى التلميح بكلمة واحدة الى خططهم حيال الكويت لسمعوا 'كلا' مدويةِ ولهذا السبب تكتمت بغداد في الكشف عن خططها مع موسكو بشكل كاملِ
ومن الممكن ان للقرار العراقي بإهمال الاتصالات مع موسكو خلفية إضافية أخرىِ فقد لاحظوا في العراق نطاق الأزمة السياسية التي يمر بها الاتحاد السوفيتي والتدهور الاقتصادي الذي يمر بهِ ومن المرجح أنهم لم يتوقعوا من الجناح السوفيتي رد فعل قويا ما بسبب تورطنا في المشاكل الداخلية مع ما يربط ذلك بمصالحنا المباشرة في العراق، وقبل كل شيء الماليةِ ولم يسقط في الحساب وجود آلاف الخبراء السوفيت في العراقِ
وكانت بالفعل ثمة أسس للتفكير على هذا النحوِ ولكن ظروفا جديدة مهمة ظهرت لا يمكن تجاهلهاِ أقصد التغييرات النوعية في المجتمع السوفيتي المتعلقة بالعلنية وانتشار الديموقراطية وإعادة النظر في الآراء السابقة في العالم المحيطِ وظهر في المجتمع الكثير من الأشياء الجديدة والمواقف من الحياة الدولية والمقاييس التي كانت تقدر بهاِ وأظن أن هذه الناحية كانت معروفة من قبل القيادة العراقية بدرجة أقلِ واعتقد أن حدة رد الفعل السوفيتي للاستيلاء على الكويت كانت مفاجأة لبغداد في درجة كبيرةِ وكانوا يعولون على سلبيتنا ولم يفترضوا ذلك القدر من المبدئية الذي ظهر في الموقف السوفيتيِ وكان هذا خطأ كبيرا جدا آخر ارتكبته بغدادِ

بعض نتائج ودروس أزمة الكويت

كانت أزمة الكويت صدمة خطيرة للمنطقةِ وفي الوقت نفسه كانت اختبارا لحصانة وقوة المجتمع الدولي في التغلب على التحدي الذي شكله العدوان العراقيِ وإن حقيقة فشل العدوان وعودة الكويت كدولة مستقلة ذات سيادة يعد بلا أدنى شك إنجازا مبدئياِ ولو سارت الأمور على غير هذا النحو وحصلت بغداد على فائدة من أعمالها العدوانية والمخالفة للقوانين فإن ذلك سيكون مقدمة لأعمال عدوانية جديدة ليس للعراق فحسب، بل لأحد ما آخرِ في هذه الحالة تكون إعادة القانون وعقاب المعتدي إنذارا بينا ومقنعا لكل من يحاول خرق سلام وأمن الجارِ
ومن المهم من الناحية المبدئية كذلك أنه ليست الدولة التي مست مصالحها وخرقت واجهت العدوان لوحدها، بل المجتمع الدولي كله الذي عمل باسم مجلس الأمنِ
وأثبتت الأمم المتحدة بمثال الأزمة الكويتية بأنها تستطيع بشرط التعاون اللازم بين أعضاء مجلس الأمن الدائمين في إطار ميثاق الأمم المتحدة أن تتغلب حتى على تحد فاضح كالعدوان المسلح وأن تنفذ واجبها الرئيسي بحماية أمن وسلام الشعوبِ
لقد قوضت 'الحرب الباردة' كل إمكانات وسمعة الأمم المتحدة وحكمت عليها بالعجز في وجه أساليب القوة التي كانت تلجأ إليها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين وبعض الدول الأخرىِ وأعادت الأزمة الكويتية الثقة في هذه المؤسسة الدولية بعد أن استطاع مجلس الأمن اتخاذ القرارات المبدئية التي يمكنه بواسطتها مواجهة العدوانِ وحسم الأمر بالقرار 687 الذي يعد مرحلة مهمة جدا في عمل المنظمة الدولية وسابقة للمستقبلِ
وبالعكس، يدل الانحراف عن إجراءات الأمم المتحدة كما حدث في حالة قصف الناتو ليوغسلافيا بأن غريزة استخدام القوة لم تزل حتى الآنِ غير أن هذا يبرز أهمية أخلاقية وسياسية وقانونية لما توصل إليه المجتمع الدولي في سير التغلب على العدوان العراقي ضد الكويت وكان امتحانا جديا اجتازه 'الخمسة' الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن بصورة لائقة تماماِ
لقد كان ثمن الأزمة الكويتية باهظا في الأرواح المفقودة وآلام الملايين والخسائر المادية الناتجة عن الدمار الذي أحدثه العراق في الكويت والتكاليف الهائلة للعمليات الحربية نفسها من أجل تحرير الكويت والجهود في تأمين الحظر على الواردات والصادرات والخسائر التي تكبدتها مختلف البلدان نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراقِ
وضحية العدوان كانت الخسائر الفادحة نتيجة أفعال النهب والتخريب وإشعال آبار النفط والكارثة البيئيةِ
ولحق بالعراق نفسه خسائر فادحة جدا في الحربِ وبالأخص أثناء مرحلتها الجوية، نتيجة تدمير المنشآت الصناعية والبنية التحتية وتدهور اقتصاد البلدِ وشكل مستوى صناعة الطاقة وإسالة الماء ومنشآت البنية التحتية نسبة 30 ـ 40 % فقط من مستواه ما قبل الحربِ ويعاني العراقيون تضخما ماليا هائلا ودخولا منخفضة وصعوبات في العملِ وازداد عدد وفيات الأطفال مرتينِ وهذا يدل على الكثيرِ وأصبح وضع السكان الاجتماعي أصعب بكثير منه قبل الاعتداء على الكويتِ
ونتيجة لسياسة حكام بغداد وقع البلد في عزلة سياسية واقتصادية وغيرها مع جميع العواقب الناتجة عن ذلكِ
والآن، عن نتائج أزمة الكويت الأخرىِ تسبب العدوان على الكويت بسلسلة من الأحداث نتجت عنها زيادة ادعاءات الولايات المتحدة بلعب الدور الرئيسي في الشؤون الدولية بعد عمليتها الناجحة في 'عاصفة الصحراء'ِ واقتنع الأميركان بقدرتهم على شن حروب جديدة وبصورة فعالة، استنادا إلى تفوقهم العسكري - التكنولوجيِ وقدمت بغداد في هذا المعنى الإمكانية الرائعة لواشنطن في وضع نموذج للحرب الجديدة وتطويره في أثناء ستة أسابيع وفي الوقت نفسه اختبار الأسلحة المعاصرة في ظروف الحربِ

المظلة الاميركية

وأظهرت الولايات المتحدة بصورة واضحة إمكاناتها بعد أن أصبحت المنظم الرئيسي لقوات التحالف للتوصل الى نصر مقنع بخسائر ضئيلةِ واكتسبت نتيجة ذلك ثروة سياسية هامة زاد من سمعتها كونها الزعيم القابل على الفعل وممتلك القوة ومن الأفضل عدم خوض النزاع معهِ وتعمل هذه الثروة السياسية الآن في الشرقين الأدنى والأوسطِ
وأرغم عدوان العراق، الكثير من الدول العربية على النظر بصورة جديدة في مسألة تأمين أمنها الخاصِ وساعدت بغداد جيدا واشنطن في هذا المعنى، حيث تتقوى بعض أجزاء العالم العربي بالمظلة الأميركية وبشكل خاص في منطقة الخليجِ
وأصبح الانشقاق العميق في العالم العربي نتيجة أخرى لعدوان العراقِ ورسم الخط الفاصل الرئيسي بين الذين دخلوا في سبيل الدفاع وصد العدوان في التحالف المعادي للعراق وبين الذين لم يسلموا ولم يرغبوا بدعوة القوات الأجنبيةِ
وكان وسيبقى الموقف من النظام العراقي ونهجه السياسي ومساعيه مصدر خلافاتِ وأصبحت الشقوق في الصف العربي عميقة بقدر أنه بعد قمة القاهرة عام 1990 لم يلتق العرب على امتداد عشر سنوات (تسنى لهم عقد هذا اللقاء في أكتوبر 2000 فقط من أجل بحث مسألة يتحد العرب فيها على الدوام وهي: تأييد الفلسطينيين في مواجهتهم لإسرائيل)ِ
وما عواقب الأزمة الكويتية المباشرة بالنسبة إلى بلادنا الاتحاد السوفيتي؟
لا يجوز الإجابة عن هذا السؤال بمدلول واحدِ فقد كانت الأزمة بحد ذاتها ضربة موجعة ضد مصالح دولتنا في الإقليم بالطبعِ فقد أعيرت عندنا على امتداد سنوات عديدة الأولوية للعلاقات مع العراق ولم تسرنا الثقة الزائدة بالنفس التي ركبت الولايات المتحدة بعد الأزمة بالذاتِ ولم يوقع المبادرون بخلق هذه الأزمة أنفسهم في حالة حرجة فحسب، بل أوقعونا معهمِ
وأعطت الأزمة الكويتية دروسا لموسكو بعدم اتخاذ القرارات بمراعاة الأسس الأيديولوجية ولكن بالقانون الدولي والأخلاقيات العامة والعدلِ كان هذا امتحانا، ولحسن الحظ نجحت موسكو في تخطيهِ
وأدت الأزمة الى إعادة علاقات الاتحاد السوفيتي الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية والبحرين وأعطت دفعة للعلاقات مع إسرائيل وأرست حجرا قويا للعلاقات مع بعض الدول العربيةِ
وساعدت هذه التطورات على ان تلعب موسكو دورا في تطبيع الوضع في الشرق الأوسطِ
يمكن كتابة الكثير جدا عن عواقب الأزمة الكويتية السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، فقد كان لها الكثير من النواحي وشعر كل بلد له يد فيها بآثارها المتعلقة بخصائصه ووضعه الجغرافي وغيرهاِ وأحدثت الأزمة بعض السوابق التي كانت إنذارا لجميع الحكومات والشعوبِ
(انتهى)