الخميس، 9 يونيو 2011

كيف تدخل روسيا عالم ما بعد الألفين؟

في اللحظات الأخيرة من العام 1999، تسلم فلاديمير بوتين قيادة أكبر دولة في العالم من ناحية المساحة والاحتياطي الاستراتيجي في كل شيء، والتي لا يغيب عنها النهار ولا الليل أبداِ وبعد أشهر أحرز بوتين انتصارا متوقعا، وعندها تساءل الكثيرون: من هو السيد بوتين؟
وتوقع الناخبون الذين أيدوه بدون قيد أو شرط أن يقوم بخطوات حاسمة تؤدي الى تغيير الكثير من الأمور في البلاد، غير أن بوتين لم يسارع الى القيام بخطوات تلفت النظرِ وحتى ما ظهر من مستجدات مثل الدوائر الفدرالية ومجلس الدولة، ومطاردة طواغيت المال، واعتماد علم ونشيد وطني وشعار للدولة تمتزج فيه روح الإمبراطوريتين القيصرية والسوفيتية، هذا كله لا يعد متغيرات حاسمة وجذابة للمواطن العاديِ
ومع انتهاء العام الأول من ولاية بوتين، يفاجأ المراقب المتيقظ بأن الصخرة التي ترتطم بها قطرات الماء واحدة تلو الأخرى وعلى الدوام قد تندثر يوما وهذا أسلوب الرئيس الروسي.
في كل لقاءاته مع المحاشفظين أو العسكريين أو الفنانين لا يمكن أن تسمع منه جديدا، غير أنك تدرك بعد حين أن شيئا ما يتغيرِ واعتبر المختصون انه تغير أيضا وتعلم كثيرا في سنته الأولى في الكرملين وعرف كيفية إجبار محدثيه على الاستماع إليه بدون استخدام عبارات رنانة.
خليط من المواقف!
ويعد من أسرار نجاح بوتين في خطب ود فريقه أو المواطنين، أنه يقول ما يسر أيا منهمِ فمن يرد الحكم القوي يمكنه مشاهدة أعمال القوات في الشيشان ومداهمة المسلحين لمكاتب شركات طواغيت المال، ولإرضاء الليبراليين يخرج قانون الإصلاح الضريبي وبرنامج التنمية الاقتصادية، ولمن يريد استمرار قواعد اللعبة التي أرساها عهد بوريس يلتسين يمكن للحكم الجديد عدم القيام بخطوات حادة تلقي بظلالها على قطاع الأعمال، ولمعارضي العهد السابق يمكن إدخال عسكريين ورجال أمن سابقين الى مؤسسة الحكم ليخلصوا البلاد من 'التركة'.
وفي كل الأحوال يشعر كل فريق (الليبراليين والوطنيين والبيروقراطيين وأصحاب المال) بأن 'التحالف مع الأعداء مؤقت ' ولابد أن تؤول الأمور الى الفريق المعني بهذا الحلمِش
لا معجزاتِِ بل أسعار نفط
وإذا افترضنا أن بوتين نجح في كل ذلك، فما هو سنده ؟ وهو القائل 'حققنا ما خطط له في مجال تطوير الارتباط الفدرالي وإصلاح مجلس الاتحاد وفي المجال الاقتصادي التزمنا بجميع مؤشرات الموازنة تقريبا ولم يرتفع معدل التضخم، ونمت رفاهية الناس بنسبة 20% وارتفعت المرتبات بنسبة60%' ويعد السند الأساسي لبوتين وهو في نفس الوقت ما يعقد مهمته،أن الناس نظروا إليه وما زالوا على أنه 'صانع المآثر وهو الذي سينقذ البلاد باعتباره الأمل الأخير المتاح'ِ ولكن، لا بوتين ولا غيره قادرون على صنع معجزة واحدةِ
فالتطورات الإيجابية في المجال الاقتصادي التي تحدث عنها الرئيس الروسي تستند إلى الظروف المواتية في أسواق النفط والغاز العالميةِ وتبقى الاستثمارات قليلة قياسا الى ما هو مطلوب، في حين أن الاستقرار الاقتصادي تحقق ولكن بشكل متدنِ
المهام الكبرى
حدد بوتين ثلاث مهام كبرى عليه تحقيقها، وهي تلك المهام التي انصرفت السلطة السابقة دون أن تجني ثمارها:
1 ـ إنقاذ البلاد من الأزمات المتتالية وتحسين أحوال الشعب.
2 ـ توطيد دور روسيا في العالم وإعادة كرامة البلاد وثقتها التي ضاعت مع تفكك الاتحاد السوفيتيِ
3 ـ ضمان استمرار المجتمع المدني والحريات وتطوير الديمقراطيةِ
وهو قد اعتمد على التفويض الذي أعطاه الناخبون، خاصة أن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية جاءت لصالح البيروقراطية الجديدة التي حصلت على صلاحيات كبرى خلال حكم يلتسين، ولن يجد بوتين من ينقذه والبلاد في حالة انخفاض أسعار النفطِ علما أن الأمر لا يتعلق ببوتين شخصيا، فلو كان يفغيني بريماكوف هو الفائز لمنحت الصلاحيات لجماعات أخرى تنتمي الى مجموعة البيروقراطية الجديدة ذاتهاِ
النهبِِ والمآسي
لقد ألقى السياسيون السابقون على عاتق روسيا كل ديون الاتحاد السوفيتي وسحبوا قواتها من أوروبا واتبعوا أسلوب العلاج بالصدمة وخصخصة أغرب من النهب وغير ذلك، الأمر الذي أضر جدا بالميزانية الروسية، ناهيك عن إنهاء الحضور الروسي في مناطق العالم الاستراتيجيةِ وآخر بدعة لفريق يلتسين كانت انضمام روسيا لنادي باريس شرط إلغاء الديون الروسية للبلدان الأفريقية !
وما ورثه بوتين في الداخل لا يقل مأساوية في المجالات كافة، ابتداء من أحوال الدولة المركزية المتدهورة وصولا الى سيطرة قلة نفعية على المال والأعمال والذين اصطلح على تسميتهم في العهد السابق ب'العائلة' الذين لم يخططوا لأن يكون بوتين شخصية مستقلة ولم يقرروا وضع السلطات كلها بيدهِ غير أن بوتين جاء بعد فراغ سياسي كبير تركه رحيل يلتسين ولم يجد (لحكمة لا يعلم بها أحد) من يستطيع منافسته في الساحة السياسية واستطاع بحس رجل الأمن المحترف اللعب على وتر التناقضات بين المحيطين بالرئيس السابق، وأعاد الأسلوب السابق ليلتسين مطلقا العنان في الأشهر الأولى من حكمه ل 'لعبة التوازنات'ِ وبعد فترة ليست بالطويلة رأى الجميع أن الرئاسة الجديدة تختلف كثيرا عن السابقة وأن الرئيس الجديد يحث خطاهِ ولكن في أي اتجاه ؟
الانقضاض على الطواغيت
بالرغم مما جرى من عمليات مطاردة بوليسية مع بعض رموز الطغمة المالية الروسية، إلا أنهم مع مرور عام كامل، ظلوا في مواقعهم وان أدركوا أن عليهم دفع الفدية الى الدولةِ
ومع ذلك يعد الهروب السينمائي لبوريس بيريزوفسكي وفلاديمير غوسينسكي من روسيا مؤشرا على تدهور أحوال الرعيل الأول من الأثرياء الروس وهزيمتهم السياسيةِ وكان أسلوب بوتين بضرب الكبير ليخوف به الصغير مثاليا الى حد بعيدِ فقد هرول رجال الأعمال بعد هذه المواقف الى إقامة علاقات جديدة مع السلطة ونهج بوتين بعيدا عن التشنج، وشعروا بأن تطور البلاد يأخذ إيقاعا جديدا عليهم أن يرقصوا عليهِ ومهما قيل عن فريق الكرملين ( متنافر أو متلاحم ) فان الرئيس قطع الطريق عن بعض الفاسدين للدخول الى الكرملين، الأمر الذي جعل صغار الفاسدين يتوجهون الى تنظيم الصناعيين ورجال الأعمال ليرتبوا علاقاتهم من خلاله بالسلطةِ
ونقطة التحول التي تحققت هي أن رجال الأعمال الروس لم يقفوا الى جانب بيريزوفسكي أو غوسينيسكي ولم يضعوا أنفسهم في معارضة السلطة، الأمر الذي سهل على فريق بوتين الخاص والمقرب جدا للمضي قدما في استئصال أذيالهم واحدا تلو الآخرِ
وهكذا انصاع البيزنس الروسي لشروط الكرملين لأول مرة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ووافق على الآلية الجديدة التي تبنتها الحكومة للحفاظ على مصالحهاِ
غير أن ذلك لا يعني أن كل شيء قد يسير على ما يرام الى الأبد، فالبيزنس لا يكف عن استخدام أسلوبه المعتاد بتحقيق مصالحه في الخفاء عبر جماعات الضغط في الحكومة والبرلمان ( غير المكشوفة حتى الآن ) والاستمرار بالدسائس والاغتيالات الشخصية للمنافسين واستخدام اتصالاتهم الشخصية بالموظفين الكبار المرتشينِ وستبقى طبقة الأثرياء موجودة، ليست بالضرورة على طريقة 'السبعة الكبار' (وهم رجال المصارف السبعة الكبرى في روسيا والذين ظهروا بعد دعمهم المالي ليلتسين في انتخابات 1996)، لكنها لا تستطيع التلاعب بمقدرات الحكم وصناعة القرار بما يناسب مصالحهاِ
دكتاتورية القانون
في كلمته الأولى دعا الرئيس بوتين الى إقامة 'دكتاتورية القانون'ِ وظهر خلال العام أنه يعتمد لتحقيق ذلك على البيروقراطية بما فيها العسكرية لتنفيذ الإصلاحات وليس على المجتمعِ
وبدأ بإصدار مرسوم يقضي بإنشاء سبع دوائر فدرالية وهو ما لم يتضمنه الدستور ومضى في تصفية مجلس الاتحاد وتأسيس مجلس الدولةِ
ولم يوفر شعار 'دكتاتورية القانون' حتى الآن المحافظة على الأمن العام وسلامة أرواح المواطنين وممتلكاتهم ولم يسيطر على عملية إعادة توزيع الملكيةِ ومما يعقد مهمة الشعار ضعف مؤسسات الدولة ونفور المجتمع منها ومن قوانينها وتعقد التفاعلات السياسية والاقتصادية وتنوع روسيا الأثني والثقافيِ
مجلس الدولة
وتم تشكيل هيئة استشارية أطلق عليها 'مجلس الدولة' تتكون من رؤساء المناطق كافة التي يجمعها الاتحاد الروسي، وتولى فلاديمير بوتين رئاسة المجلسِ وشكل مجلس مصغر وهو هيئة رئاسة مجلس الدولة يتغير أعضاؤه كل ستة أشهر وهم ممثلو الدوائر الفدراليةِ
ومنذ تشكيله، لم يتمتع مجلس الدولة وهيئة رئاسته بأية صلاحية حقيقية فقد جاء في المرسوم الرئاسي الذي شكله بأنه عبارة عن 'هيئة استشارية تضمن حوارا منتظما بين رؤساء المناطق والرئيس حول أهم قضايا الدولة'ِ
وفي كل الأحوال فان جميع أعضاء المجلس مرتاحون لبناء ورشة جديدة للدولة التي توسعت فيها الدوائر الجديدة حتى ضاقت بها أبنية الاتحاد السوفيتي كلهاِ ويتوقع انبثاق مجالس أخرى من هذا المجلس وكلها لا تمتلك أية صلاحيةِ