الصحوة الإسلامية هي جزء من ظاهرة الانبعاث الديني العام الذي اصبح ممكنا بفضل البيروسترويكا التي بدأها ميخائيل غورباتشوف واعقبها انهيار النظام التوتاليتاري وبناء النظام الديموقراطي ولو كان غير ناضج بعد.
ويطالبنا هذا التأكيد البديهي باضافة مبدئية: للصحوة الدينية اسباب اكثر عمقا وهي العملية الحتمية والموضوعية والتي كان ينبغي ان تبدأ في اراضي الاتحاد السوفيتي عاجلا أو آجلا.
فقد كان قمع الدين في الاوقات السوفيتية والسعي لتقييد تأثيره على الناس وايصاله إلى العدم قدرالامكان المعبر عنه في موضوع زوال الدين (وعد نيكيتا خروتشوف بعرض القس الاخير بالتلفزيون) بمثابة تحد للمدنية ويعني قطع التقليد الحضاري التاريخي، وادى إلى تشويه المجتمع ووضعه على حافة الكارثة، وكان يجري في حقيقة الامر تدمير هيكل المجتمع الاخلاقي وازالة قواعد السلوك والاهداف القيمة الثابتة في مجري التاريخ وكان تدمير دور العبادة رمزا لذلك.
وكان المجتمع يسير نحو التدهور الحتمي بدون اعادة تقاليد الدين المقدسة، وتأمين اعادة بنائها التي دفعت من الخارج، اي كانت لها حجة عالمية بحتة لبقاء المجتمع على قيد الحياة وتطويره، ومن وجهة النظر هذه تحول باعث القوى العالمية للصحوة الدينية إلى تأييد (وتقديس) نزوع المجتمع ولجوئه للدينِ وصارت الصحوة الدينية بكل تناقضاتها واحدة من اهم عوامل هذا التحول لأنها جعلته غير قابل للعكس: فمن المشكوك فيه ان تتسنى للشيوعيين حتى الاكثر راديكالية منهم في حالة مجيئهم الافتراضي للحكم القدرة على فرض ايديولوجيا وحيدة واخضاع الوعي الاجتماعي لهم مرة اخرى وتجريد حق الفرد من اعتناق دينه بعد هذه النهضة الدينية الفعالة.
المؤمنون
تخضع طبيعة الصحوة الدينية بصعوبة للجرد الاحصائي وحتى للتحليل الاجتماعي، ويدل على ذلك التضارب الملحوظ في المعطيات الخاصة بعدد المؤمنين في روسياِ وتتراوح نسبتهم على العموم من 20 إلى 80 في المائة من 148 مليون نسمةِ وجاء في دليل 'الاتحادات الدينية في روسيا الاتحادية' الذي اعده مجلس البرلمان (الدوما) بتحرير النائب فاليري بورشيف وعضو مجلس الاتحاد (الشيوخ) ميخائيل بروساك ان 75 في المائة من المؤمنين هم ارثوذكسِ وحسب تقديرات علماء الاجتماع 'تتراوح نسبة جزء المجتمع الروسي غير الديني في حدود 40-60 في المائة.
وترى الباحثة اولغا بوريتسكينا بان المؤمنين في روسيا يشكلون 18 في المائة فقط و90 في المائة منهم ارثوذكس ومسلمون، واشير في مقالة نشرتها مجلة 'تايم' الاميركية في عام 1997 بان المسلمين يشكلون 5،5 في المائة من سكان روسيا مقابل 18،7 من الارثوذكس (19،8 في المائة من غير المؤمنين ).
ومع ذلك تجدر الاشارة إلى ان الكثير ممن لا يعتبرون انفسهم مؤمنين يؤدون في الوقت نفسه تقاليد أو طقوسا دينية معينةِ وسجلت هذه الظاهرة بشكل خاص في سير استطلاع الرأي الذي أجراه المعهد الروسي المستقل للمشاكل الاجتماعية والقومية في عام 1993.
وتعتبر الزيادة في عدد دور العبادة المسجلة وشبكات التعليم الديني المنتشرة دلائل ملموسة على الصحوة الدينية. ويدل على الشيء نفسه نشاط المنظمات الدينية وزيادة عددها، واخيرا، يؤدي تقوية دور الدين في المجتمع إلى سعي القوى السياسية المختلفة لاستخدامه لمصلحتها، وسنتناول هذا الموضوع بالتفصيل ادناه.
الوعي الاجتماعي
لنتوقف عند الظرف الذي يخضع للقياسات الاحصائية والتحليل السياسي ويغيب احيانا عن اهتمام علماء الاجتماع، ونقصد الوعي الاجتماعي الفردي، هذا التطور يجري ببطء وان بدأ عند النظرة السطحية بان الوعي بالذات يتكيف اولا بظروف الحياة الجديدة ويقدر على احتواء تغييراتها المفاجئةِ وفي الواقع تسبب الصدمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قصيرة الاجل إلى العودة للمفاهيم السابقة المعتاد عليها بعد الانحرافات الحادة في ادراك الانسان لنفسه والمجتمع على السواء بموجب قوة استمرار الطبيعة وتأثير هذه المفاهيم بدورها على قواعد السلوك الفردي والاجتماعي.
وتكون عملية الصحوة الدينية من وجهة النظر هذه مهمةِ حيث تأصل في المرحلة السوفيتية في الوعي الاجتماعي الموقف اللامبالي من الدين الذي استبدل بقسوة أو بالتدريج ب 'العقيدة الشيوعية' وأدى 'اخراج' الدين من حياة الفرد والعائلة والغاء نظام التعليم الديني وغياب الدين كمنهج دراسي في المؤسسات التربوية الى تشكيل جيل في الاتحاد السوفيتي من البعيدين عن الدين ولم يتعرفوا عليه بالمرة.
وكان في الاتحاد السوفيتي وروسيا نفسها عدد غير قليل من المؤمنين وكانت العودة الى الدين واضحة في سنوات الحرب وما بعدهاِ غير ان الوعي الاجتماعي كان مشوها بشكل عام خلال عدة عقودِ وفي غضون ذلك كان المفكرون البلاشفة ينتقدون استخدام الارشادات الدينية رغم استخدامهم لمبادئ العدالة الاجتماعية والأولويات الأخرى، وكان أكثر ما يهمهم تأييد المجتمع للسلطة الرسمية والخضوع لهاِ وكان يجري ابعاد المجتمع من عقائده الدينية بالتدريج وكان يجري انعاشها ببطء ايضاِ وتفسير ذلك بسيط جدا ، اذا كان تثبيت الالحاد في المجتمع بحاجة الى عشرات السنين سيتشكل خلالها جيل سوفيتي غير مبال بالدينِ وعلى هذا النحو يحتاج اعادة الحالة الطبيعية أي اعادة الدين للوعي الى وقت كاف لتشكيل جيل جديد لم يتعرض لتأثير المذهب الشيوعي ولم يتعرض لغسل الدماغ الالحادي في المدارس والمعاهد العليا.
الفراغ الروحي
يتكلمون اليوم كثيرا عن 'الفراغ' الايديولوجي والروحي المتشكل في المجتمع الروسي بعد زوال الايديولوجية السوفيتية وانحسار قيمها الرئيسيةِ قال الحقوقي والخبير بالشؤون الدينية أناتولي بتشيلينتسيف بأن 'الشعب الروسي الذي تخلص من العبودية الشاملة، العبودية الروحية والسياسية والاقتصادية سيبقى في حالة خمول وحيرة'، ولكن هذه الملاحظة تحتاج الى بعض التصحيحِ بالفعل تعرض وعي الناس في نهاية البيروسترويكا وفي الأشهر الأولى من بداية الاصلاحات الراديكالية لمنحة قاسية للغاية.
غير ان انحلال الوعي الاجتماعي لم يحدث ومن غير الانصاف الحديث عن فراغ مطلق في رؤوس ونفوس الناس.
ان المذهب الذي أرسته السلطة السوفيتية اما يستمر بالوجود او يتحول الى العكس مع تغيير مراكز الاهتمام.
وفي الحالتين يلعب الدين دورا اعلانيا في الغالب حتى الآنِ ومن وجهة النظر، هذه لا يؤمن الديموقراطي يلتسين بالارثوذكسية بشكل أكبر من الشيوعي الملحد زيوغانوفِ وتثار الشكوك في انتساب القوتين الاجتماعيتين الرئيسيتين المشاركتين في توطيد المثل العليا الديموقراطية أو الشيوعية القومية على السواء للدين.
ومن المحتمل ان الدين لم يشغل حتى الآن المكان الملائم له على مستوى الوعي الاجتماعيِ ومع ذلك ثمة الأسس الكافية لكي نقول ان هذا الوعي سيتطورِ ولا يخص ذلك الجيل الأكبر فحسب، بل الشباب الذين ولدوا في الثمانيناتِ لأن في روحهم توجد 'بحبوحة' روحية كانت في السابق تملأ باحترام لينين والحزب الشيوعي والأمان بالمستقبل الاشتراكيِ كانت الايديولوجية الرسمية تغرس بكل الوسائل فكرة تقديس الماركسية اللينينية والشخصيات البلشفية من لينين الى بريجنيفِ وكانت العقيدة الشيوعية تريد ان تحتل موقع الدين في المجتمع وتلعب دوره ، ولم تكن في الواقع سوى 'حارس' المكان الذي يشغله الدين في المجتمع العاديِ
وبعد ان جردت اللينينية من 'وضعها الديني المزيف' نشأت في المجتمع الحاجة الى تغييرها بمثل عليا وليس عقلية جديدةِ وكان ذلك يرتبط بدرجة أولى بتربية الجيل الناميِ غير انه خلافا لمخاوف الايديولوجيين الشيوعيين (والقوميين) لن تعوض 'المثل العليا للثورة الاشتراكية'، بالثقافة الجماهيرية والقيم الاخلاقية المستوردةِ ويبدي جزء من الشباب بالرغم من التأثير القوي للتقاليد المغايرة الواردة من الخارج وضغط المفاهيم السابقة في العقيدة والسلوك من الجيل الأكبر الاهتمام بأحكام وآراء الدين وطقوسه. ولا يجبر الشباب على ان يكونوا ملحدين أو بالعكسِ وينمو أمامنا جيل تربى منذ الولادة على ان له الحق في القيام بخياره المستقل في تثبيت هويته الذاتية الروحية والسيكولوجيةِ وقام عدد غير قليل من المسلمين بخيارهم في مصلحة الاسلام، يشير راوي عين الدين الى ان 'البدء بالاصلاحات ساعد في تربية الجيل الحالي على اكتساب روح الاسلام واستطاع مسلمو روسيا ان يشعروا بأنهم جزء من العالم الاسلامي'.
ويشجع الاهتمام بالدين ذلك السيل من الآداب الاسلامية ومشاركة الدين في السياسة ونمو دوره في المجتمعِ ويرتبط، عدد أكبر فأكبر من الشباب بالدين معتبرين ذلك الصلة الطبيعية لانتسابهم الى أمتهم ويبني فيهم الأساس الديني والقومي ويجعله متينا وثابتا في نفس الفرد والمجتمعِ
وفي الآفاق التاريخية تكتسب العملية التي تسمى اليوم 'الصحوة الدينية' أهمية كبرى للشباب لأنهم سيحملون على الأرجح التقاليد الدينية التي قطعت أو انتزعت على الأقل من حياة البلد الروحية والثقافية بعد ثورة اكتوبر 1997.
قوة الإسلام
وكل ما قيل مقتصر على الصحوة الاسلاميةِ لان الاسلام تميز عن بعث الارثوذكسية الدين الاكثر انتشارا في روسياِ ويعود سبب ذلك الى: اولا، استطاع الاسلام خلافا للمسيحية المحافظة على التأثير الاكبر على انصاره. وحدث ذلك بسبب ان الاسلام لم يتعرض للتدمير الفظيع الذي تعرضت له الارثوذكسية لان الدعاية الالحادية وحملات التنكيل وجهت ضد دين البلد الرئيسيِ وعدا ذلك، كانت مقاومة الاسلام للضغط الالحادي ( واي ضغط آخر، بالمناسبة ) اكثر فعالية واكثر مرونة منها لدى الارثوذكسي وسبب ذلك وحدة الاسلام الداخلية والصلة التي لا تتجزأ بين المبدأين الروحي والكونيِ ونتج عن ذلك عمق تسربه في المجتمعِ كان الاسلام في الاوقاف السوفيتية مهانا لكن تسنى له البقاء على مستوى البيئة الثقافية والاثنيةِ وكان للاسلام الاساس الاجتماعي والثقافي العضوي للبعث.
وكان هذا الاساس للارثوذكسية معدوما تماما وبدا بعثه من الصفر تقريبا واصبح بناء معبد المسيح المنقذ من جديد رمزا لهذا البعث.
ثانيا، الاسلام في روسيا دين الاقلية او دين الاقليات القوميةِ ونتج من هذا التوجه ان الاسلام تحول بدرجة كبيرة الى عامل لتثبيت هوية المسلمين الاثنية ووسيلة لحفظ ذاتهم كأقلية محاطة بأكثريةِ ويبرز نشاط العقليات الدينية لدى الاقلية بصورة اوضح واثبت منه في بيئة الاكثرية الدينية. ووفقا لمعطيات الكتاب الاجتماعيين فان 67% من تتار روسيا اعتبروا انفسهم مؤمنين في عام 1993ِ وازدادت هذه النسبة المئوية حتى هذه اللحظة بالتأكيدِ تورد عالمة الاجتماع نِ موسينا معلومات من قازان تشير الى ان 68% من ارياف تتارستان و66،6% من المدن اعتبروا انفسهم مؤمنين (في عام 1989 كانت النسبة على التوالي 34،4
و11،3)ِ اما شمال القوقاز فيعتقد الاختصاصيون المحليون بان نسبة المؤمنين هناك تقترب الى 100% .
ثالثا، للبلدان الاسلامية بلا شك اليد في النهضة الاسلامية التي شهدتها روسياِ لا نتحدث عن المساعدات المالية المباشرة واعداد الكوادر فحسب، بل نقصد عملية التوحيد الروحية مع اتباع نفس الدين في العالم الاسلامي وقبل كل شيء في مهدهِ وبدأ مسلمو روسيا يشعرون بانهم جزء من العالم الاسلامي الكبيرِ وعندما يشكلون الاقلية في روسيا مقارنة بالسلافيين الارثوذكس فانهم يفوقونهم عددا على نطاق العالم (يسكن المسلمون في 130 بلدا ويشكلون الاكثرية في 35 بلدا منها)ِ واذا كانت الصحوة الدينية بالنسبة للروس الارثوذكس قضيتهم 'الخاصة' وقضية وطنية بحتة، يصبح بعث الاسلام في روسيا قضية كل الامة الاسلامية.
ويرون في بلدان الشرق الادنى والاوسط في هذه الصحوة عملية طبيعية لعودة اتباع نفس الدين الشماليين الى حضن الحضارة الاسلامية واعادة بناء الصلات الناشئة في القرون الوسطى (وان لم تصبح متينة)ِ وتضفي الصحوة الاسلامية لمسلمي مناطق الفولغا وشمال القوقاز والاورال وسيبيريا الشعور بعزة النفس.
رابعا، ليست الصحوة الاسلامية عملية دينية صرفةِ وقد تؤثر عودة الاسلام في روسيا الى السياسة على توزيع القوى في المجتمع على المستوى الاقليمي وحتى في التأثير على السياسة الخارجيةِ ويبدو ان الاوساط الحاكمة الروسية ادركت ذلك في اواسط التسعينات بعد ان ادرك ايديولوجيو المعارضة ذلك قبلها.
وتحفز سياسة الكرملين بلا شك الى جعل الاسلام دينا سياسيا ، لان الكرملين احرج العلاقات مع الاقاليم الاسلامية واصبحت الحرب في الشيشان ذروة هذه السياسةِ وصارت هذه الحرب سببا لنمو الافكار الراديكالية بين مسلمي روسيا وكادت تثير فكرة التضامن الاسلامي التي كانت تكمن في وعيهم.
المنظمات الإسلامية
ويعتبر نمو عدد من المنظمات الاسلامية والاتحادات والمساجد مقياسا للصحوة الاسلاميةِ حيث سجلت لغاية الاول من يناير 1997 في روسيا 2738 منظمة اسلامية و2587 مجموعة تشكلت من الجوامعِ وعموما تشكل الاتحادات الاسلامية خمس الاتحادات الدينية المسجلة في روسياِ ولنذكر بان عدد الجوامع المسجلة في روسيا في عام 1937 لم يتجاوز المائة جامع وكان عددها في عام 1954، 94 جامعا وفي عام 1986، 189 وفي عام 1991، 870 جامعاِ ويؤكد المحرر في جريدة 'نيزافيسميا غازيتا' راؤول توخواتولين بأم 5 آلاف جامع كانت تعمل في روسيا عام 1995.
وافتتح اكبر عدد من الجوامع في تتارستان، 700 جامع حتى مطلع 1997 وفي بشكيريا 490 جامعا. (لا نعطي هنا المعطيات عن شمال القوقاز) وتعقبهما منطقة اورينبورغسكيا، 75 جامعا واتحادا دينيا، منطقة اوليانوفسكيا 50، منطقة سامارسكيا 41، منطقة سفيردلوفسكيا 38، منطقة يوتشيلابينسكيا 31، منطقة نيجغوردسكيا، بينزينسكيا، وتيومينسكيا 35، في كل منهما ومنطقة بيرمسكيا 33 جامعا.
وتفتتح الجوامع في المناطق التي لا يكون فيها عدد المسلمين كبيرا، مثلا في مدينة اركوتسك تم استلام 300 مليون روبل لاصلاح الجوامع هناك من الرابطة الاسلامية العالمية ومدينتي نوفوسيبيرسك وسارانسك حيث يبنى جامع جديد خصصت له السلطات 600 مليون روبل، وتبنى الجوامع في المناطق النائية من المراكز المعروفة للمسلمين كالدائرة الذاتية الحكم يامالو ـ نينيتسكي حيث تبني الشركة التركية أتا جامعا في عاصمتها ساليخارد التي يشكل المسلمون فيها 20% من سكانها.