سنروي لكم حكايات كل المقاهي في العراق التي لم تخلق للاستراحة ، بل تلك التي ترتدي الملابس خصيصا لها وتعبئ جيوبك بالمفردة والمعزوفة وأكثر حروف التهجي فهما للكادح والموسور والجوعان والزعلان من شروط القافية ومباهج النكتة الحديثة وطموحات إصدار العدد الأول من المجلة المستنسخة.
في الصباح وفي الليل ، تنحدر مدارس المستقبل الشعرية والتشكيلية والسياسية وتمزق روح الاستعمار ، يزف مسائها ، صبحها ، ويرطب صبحها أوقاتها بالصحف المختلفة الألوان واللغات : شجرة ، تجدد في كل دورة مياه أغصانها وشارات الأصوات المكبوتة بالأوثان وظلال المحبوبة المخيطة أحلامها مع الشباك ، أحاديث الأوبئة القادمة من الصين أو على متن الزوارق الهندية ، أنباء العملة الجديدة وأقاويل حريم الوالي الثائرات على طاقته المتوارية واعتراف المناضل الذي دقوا رأسه مع صياح ديك المعتقل.
كم أعطتنا تلك المقاهي بأنوارها نصف المضاءة جملة الدليل وتفصيله ، نكهة الحرف والصورة وحزننا المزروع في أحشاء البلاد ، صداها المثقل بمناجاة الفصول وأوهامها.
حاملات أسرار الوقت الإنساني ، فكم من أشنة أديب وفنان تركته يافعا ، لتعود وترى الشيب قد خطــّـه ووشوش الظلام ابتسامته ، كم أوت من عابري السبيل الى الأدب والفن والحظ والسياسة والعمارة والدور المقفرة. ولم يكتب لأي مشهور أو مغمور ، صنــّاع أو موهوب ، عالق بثياب القصيدة أو حامل روابطها القانية ، إلا وتمدد على تخوتها وعبء الدخان في أركانها ، وإن أقفلت أبوابها ، فهي القرية التي لا تجلي أضواءها بالماء، وإن أعتمت زواياها ، تتبادل القلوب إنارتها ماحية الفراغ بأمل الكلمة والنغم والعبارة المحدثة.
إليكم أسماء قرى المعرفة العراقية وواحاتها المجدولة بجماع الكلام ، بغيثها وبريق أغوارها ، بسعيها الظافر وأبطالها الغائبين على ضفة المرسى المعشوشب .. مبادرة لتجرع بعض الموت وعناق البحيرة طلبا للمساء ، الجامعات التي يسمونها اختصارا خشية مضيعة الوقت : المقاهي!
خان جغان
ذو استخدام متعدد ، أقدم المقاهي الأدبية في العراق : خان جغان ، الذي افتتح في العام 1590 ، فتجد فيه الرحالة والخيالة والعسس وقراء الصحف التركية التي كانت تنتشر على طاولاته ويسمح بقراءتها بالمجان كأسلوب لتتريك البلاد.
عقدت فيه أولى المراهنات على أبطال الوطن بالنرد والدومينو واستراح فيه عمال المسطر ، فاستحق بجدارة المثل الشعبي أو الوصف الذي يطلق على المكان الذي يؤمه أيا كان في أي وقت ، حيث ما زال العامة العراقيون يتندرون حول المكان السائب الذي لا صاحب له : قابل هذا خان جغان؟!
هو مقهى الوعي الاجتماعي والوطني غير المكتمل الذي لا يفرق لديه أن تجد نفسك فيه أو خارجه ، فيه الدماثة والطرافة واللعب على الذقون والتظاهر بمعرفة اللغة التركية والغور في نقاشات حول الطيور بين المطيرجية بالأهمية نفسها حين يدور الحوار عن الخيول أو وزراء الوالي أو رؤية الهلال.
الخفــّـافين
هو السنام الذي حمل المثقفين العراقيين لثلاثة قرون منذ افتتاحه عام 1704 ، واختلف عن المقهى الرائد المذكور ، أنه ضم بين أركانه الوجهاء والساسة والمتعلمين وحتى علماء الدين الذين كان جميعهم ينظمون الشعر !
لم يكن للخفافين هوية محددة ، ففيها تتبادل ألسن متعددة محاولات الكلام ولم تستأنف صالونها ، ولم تفرّخ أديب أو علامة معروف ، بل وحتى لم تتصل المخطوطات بها بنوع من ذهول المحطات.
الحيدرخانة
اختارت المقاهي مثقفيها أو بالعكس مع دخول الغرباء الجدد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ومثلما تمر مائة سنة على بغداد لتحتضن غرباء آخرين ، وجد الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين أنفسهم بلا نقابات أو اتحادات يجمعون على شرعيتها ، فلم يكن أمامهم غير المقاهي ، فهي لا تمثل حركة أو شخص أو تكتل سياسي ما ، فزائر المقاهي يشعر باستقلاليته طالما يدفع أجور استكان الشاي من جيبه.
تتشابه مقاهي المثقفين العراقيين الآن كثيرا مع تلك التي نشأت مع إطلالة الجيش البريطاني وبالتحديد مع أول تماس عسكري بين المحليين والغرباء في ما سجلها التاريخ بثورة العشرين.
حركت هذه الثورة مع العكل والعمائم والسدائر ، العقول التي تتظلل بها، ولأول مرة في تاريخ العراق المعاصر شعرت البلاد بأنها بحاجة الى جانب البنادق القديمة الى فكر يهذب حماسة السواعد وتعطش الفكر لرجاله واحتاج الرجال الى منابر ، وخلقت هذه الحاجة ، مقاهي الفكر للمرة الأولى.
وبفضل الشاعر والخطيب محمد مهدي البصير الذي اتخذ من جامع الحيدرخانة فضاء وساحة لعرض أفكاره ، ولأن الناس الذين كانوا يتدفقون من كل أنحاء العراق لسماعه يحتاجون الى أماكن للاستراحة وانتظار الخطيب أو تنظيم المظاهرات ، فقد تحولت المقاهي المجاورة لجامع الحيدرخانة الى مستقر أولي لمنشئي حركات النهضة المبكرة في العراق. وبدورها تحولت تلك المقاهي من فراغ لإضاعة الوقت واللقاءات التقليدية الى ملتقى المتعلمين والمتنورين ، وفيها خطت المناشير المضادة والصفحات الأولى لتاريخ سياسي كتب عليه المضي قدما.
عارف آغا
وضمت بين أركانها طليعة المجتمع العراقي المتعلم والمغبون في الوقت نفسه ، وبرز دورها بعد 10 سنوات من انحسار دور مقاهي الحيدرخانة التي غاب عنها خطيبها.
وكان ما يعرف بالموظفين المفصولين لأسباب سياسية وأغلبهم من المعلمين والمدرسين النواة الأولى لظهور أسماء ، كتب لها أن تلعب دورا رائدا في الحياة السياسية والثقافية العراقية كمعروف الرصافي وجعفر أبو التمن وحسين علي البزركان وغيرهم.
يذكر أن أكثر الفترات التي ازدهرت بها هذه المقهى ، هي التي اشتدت فيها الخلاف بين الشاعرين معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ، وعندها ابتعد الأول عن مقهى الزهاوي ليركن له مكانا فيها مع أنصاره.
ويسجل لهذا المقهى أنه شهد المصالحة التاريخية بين الشاعرين اللدودين المذكورين ، وظهور البواكير الأولى للشاعر أحمد الصافي النجفي والمثقف الطليعي الأب أنستانس الكرملي.
الأمين
وهي المقهى الأول الذي يقام على أنقاض سينما ، وكانت هذه السينما هي روكسي ، التي ولدت في بغداد مع انبثاق فن السينما في العالم وواكبت كل الأفلام الرائدة الصامتة منها والناطقة.
ولأنها معقل السينما وبواباتها فتحت لعشاق الفن ، فقد أصبحت بعد زوالها ، مقهى يجمع الفنانين ، الذين كانوا بغياب المسرح من الموسيقيين والعازفين وكتاب الأغاني وقراء المقام العراقي الذين اشتهر من بينهم رشيد القندرجي.
الزهاوي
وهي فريدة في مسألتين : الأولى ، أنها ظلت محافظة على هويتها حتى يومنا هذا ، والثانية ، هي المقهى الرائد الأول الذي أنجب الحركات الثقافية وعدد لا يستهان به من المثقفين في مجال الأدب والصحافية والفن والسياسية والعلوم.
وليس غريبا أن تطلق على أسم الشاعر والمفكر جميل صدقي الزهاوي ، الذي بدأ أولى المعارك الأدبية العربية مفتتحا إياها بسجالاته المنشورة ضد عباس محمود العقاد والقصائد الهجائية المتبادلة مع معروف الرصافي.
تجلس اليوم في مقهى الزهاوي التي قال صاحبها لنا بأنه لم يغلقها حتى يوم 9 أبريل ، وبأنها أعز عليه من بيته ، لترى غير تلك الوجوه التي أزهرت الأدب العراقي.
غير أنها تنتعش بهم صباح كل جمعة ، حيث يشجع الأدباء الجلوس فيها نشاط شارع المتنبي وبحثهم الدءوب عن الجديد من الكتب المستنسخة والمستوردة حديثا.
البرلمان
وهي التي انتقلت إليها النخبة في الأربعينات ، لسببها المهم وهو أن الذي يفضل الجلوس فيها لا يكون غير محمد مهدي الجواهري. واستعارت أسمها مما أسميناهم النخبة وهم أعضاء البرلمان والأعيان والوجهاء.
فيها ألقى الجواهري قصائده المحركة والمهيجة للشارع البغدادي ، ومنها انطلقت المظاهرات المسيسة والمنظمة ، بالرغم من أن صانعها الأكبر لم يكن منتم الى حزب سياسي بعينه. فقد كان لوحده حزب ولديه المحرك والعجلة والمقود.
تستمر البرلمان حتى يومنا هذا أنيقة ، وأن هجرها الأدباء ومحبيهم ، لكنهم يطلون من ثقوبها أحيانا ، لبضعة دقائق ، لعلهم يستذكرون عميدهم الشاعر الأكبر.
الواق واق
لم يبق لها ذكر ، غير أنها ضمت ألمع أدباء العراق وفنانيه. وكان انتهاء الحرب العالمية الثانية المبشر الأول لافتتاحها بتمويل شخصي من رائد التشكيل والنحت العراقي جواد سليم.
ولمت هذه المقهى كل متسكعي الأدب العراقي الأوائل كحسين مردان وإبراهيم اليتيم وبرز فيها رواد كبار كفؤاد التكرلي وشقيقه نهاد والشاعر بلند الحيدري والقاص عدنان رؤوف والرسام الكبير جميل حمودي.
كان الشعراء منهم يمرون في الفترة الضيقة من التحول الى الشعر الحر والقصاصين مندهشين من روايات وليم فولكنر وجيمس جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست والتشكيليين لم يبطل نقاشهم عن التكعيبية وكلهم لم يحسموا موقفهم من السريالية والدادائية.
ولأن أغلبهم ضائع بين هذه المدرسة أو تلك فقد أصدروا صحيفة " الوقت الضائع " التي حملت فيما بعد اسم المجموعة التي تبنتها.
ولم يسجل أي نشاط سياسي حقيقي لهم ، لكنهم غيروا الكثير جدا من إيقاع الثقافة العراقية حتى يومنا هذا.
اندثرت هذه المقهى الواقعة في ساحة عنتر ويعرض على أنقاضها الآن أثاث مستعمل للبيع ، يمشطه غبار الأعظمية.
البلدية
يعدّ مقر الجبهة الوطنية للمثقفين العراقيين. فبعد اشتداد النزال بين البعثيين والشيوعيين عقب أحداث 1959 ، انزوى أدباء الحزبين الى هذا المقهى بالذات المقابل لوزارة الدفاع ابتداء من بدر شاكر السياب وحتى جماعة كركوك الواسعة الثراء الأدبي.
في هذا المقهى تأسس الحوار الأدبي الخالي من دموية الحزبيين ، بالرغم من أن الأدباء كانوا منتمين للحزبين المذكورين.
ولم يعرف كاتبا ستينيا واحدا ، لم يجلس في هذا المقهى ويبح صوته نقاشا في ما يتصور أنه الأصح في السياسة والأدب على السواء.
حسن عجمي
جلست فيها خمسة أجيال أدبية ، من الخمسينية وحتى التسعينية. ولم يعرف أديب واحد في العراق لم يجلس فيها ، منذ أن ألقى فيها الجواهري قصيدته المؤثرة " أخي جعفر ".
لم يعرف كم من القصائد والقصص كتبت فيها وعنها وكم حوادث أفلام ومسرحيات نسجت فيها ومنها.
هي المقهى – المحطة التي يتعارف فيها الأدباء القادمون من كل أنحاء العراق على زملائهم الساكنين في العاصمة لكونها ليست بعيدة عن الميدان ولا عن الحيدرخانة وبالقرب منها تنتشر الفنادق والمطاعم الرخيصة التي تأوي الأدباء والمثقفين وتطعمهم.
كان الأدباء يجلسون فيها منذ الواحدة ظهرا حتى الرابعة عصرا ليتمشوا عبر شارع النهر ومرورا بالرشيد والسعدون الى مشرب " المرايا " في ساحة الأندلس ومنه يكملون ليلتهم في حدائق نادي اتحاد الأدباء صيفا وقاعته المدخنة شتاء والذي لا يبعد كثيرا من مراياهم.
بعد انهيار ساحة الميدان وتحولها الى وكر للصوص ونهابي الحرب المنقضية وزوال كل الأسباب المحترمة التي تجعل الأديب منشرحا ، هجرها الأدباء بعد نصف قرن من تدثرهم بها.
البرازيلية
كما لو كانت قاعة انتظار في مستشفى معقم ، يطل على منظر حسن في منتصف شارع الرشيد.
ارتاده الأدباء والفنانين والتشكيليين عندما يكون مزاجهم رائقا ويرتدون بدلات نظيفة يحافظون على عدم اتساخها في المقاهي الأخرى. فلهذا المقهى أتكيت وبروتوكولات خاصة ونادليه يرتدون اللباس الأبيض الذي ذكرنا بالمستشفى في مقدمة تعريف المقهى ويجهزون مختلف أنواع القهوة.
لا تذاع فيه أغنية وغير مسموح لتداول أي نوع من الألعاب التقليدية التي تصدر أصوات تزعج صمت المقهى الأثيري ، الذي وأن حافظ على جماله حتى الآن ، لكن أي من الأدباء يفضل الابتعاد عن مشاكل شارع الرشيد وقطاع الطرق المزروعين فيه.
الشابندر
يقع في حلق سوق السراي للكتب ونهاية شارع المتنبي الذي ورث مهنة السراي. وبالقرب منه وقعت أول مقر لبلدية بغداد والمدرسة المستنصرية وباب القشلة ومتصرفية بغداد ، وتأسس في اللحظات التي كانت فيه الحرب العالمية الأولى تحصى نتائجها وموتاها ومستعمراتها.
وقوعها بالقرب من كل المباني الحكومية البغدادية الأساسية جعلها واحة للمراجعين وطالبي التعيين وحلالي المشاكل مع الدولة ، أضف إليهم المثقفين الزائرين سوق السراي ، فقد كانت تشكيلة متوازنة بين المتعلمين والمبدعين. وليس غريبا أن يكون تأسيسها على أنقاض مطبعة الشابندر الشهيرة.
يجلس الآن فيها كل أدباء العراق وفنانيه ، لا سيما الشباب ، وفي الجمعة تشبه تنور يبث الدخان واللهاث والمحاولات الأولى لكتابة شيء ذا معنى.
حوار
أول مقهى يعد بيت سكني سابق يقع في حي سكني تقليدي. قربها من أكاديمية الفنون الجميلة ، جعل طلاب الفن وأساتذتهم وأصدقائهم يجذبون إليها بالتدريج الصحافيين والأدباء وزوارهم والباحثين عنهم.
تعمل الآن منذ الصباح وتجهز الفطور والغداء ، ويغادرها مريديها في الرابعة عصرا ، للالتحاق بأول حافلة تقلهم قبل مغيب الشمس ونشاط قطاع الطرق والحياة.
فيها أركان منعزلة وغرف مستقلة ، يقرأ فيها الممثلين نصوص مسرحية وتلفزيونية مكتوبة بخط اليد لمن يريد بكل همة القضاء على أزمة النص.
عزاوي
مطربو المقام العراقي خلدوا " مقهى عزاوي " في الكثير من " البستات " الغنائية ، لأنهم كانوا من رواده الدائمين.
كان مقهى بغداديا مثاليا في كل شيء ، جدرانه ونوافذه وطاولاته وتخوته وطريقة تقديم الطلبات وأزياء النادلين وصاحبه فنان عراقي نعتذر عن نسيان أسمه في هذه اللحظات التي بدأت ذاكرتنا تجول حول ملبسه البغدادي الأصيل وجلوس أصحابه من الفنانين البغداديين الشعبيين كخليل الرفاعي وسليم البصري وغيرهم.
لم يكن مقهى للشباب ، بالرغم من عدم اعتراض أحد على وجودهم، لكن سماته كانت شعبية وعريقة ، لذلك كان المخرجون التلفزيونيون والسينمائيون يفضلون تصوير أفلامهم ومسلسلاتهم فيه بالذات ، فأي خبير في الديكور و الإكسسوار لا يستطيع منح ما كانت هذه المقهى تعبر عنه وعلى الهواء البسيط مباشرة.
اندثرت هذه المقهى بكل ما تعنيه هذه المفردة من معنى وأصبحت من توابع التي يمكن أن نسميها يوما " أنقاض البلاد".
المنسيات
لم يختر الأدباء والمثقفين مقاهيهم على هوى أقدامهم ، بل جعلوا لكل مقهى سبب. ولم يجلسوا في مقهى واحد ، بل كان الأديب منهم ، يجلس في أكثر من مقهى ، حتى في اليوم الواحد ، تبعا للسبب والبطل والقضية. وكتعاقب الأجيال الأدبية والفنية ، فللمقاهي تعاقبها أيضا ، كالحضارات التي تعلو وتندرس وكالمدن.
نترك الكلام في تتبع ظلال مقاه نسيت .. مجرد ذكر أسمائها لن يبدأ فيها الحياة من جديد : الصباح ، أم كلثوم ، ياسين ، الدفاع ، إبراهيم عرب ، السويس ، المعقدين ، السويسري ، جرداغ ، تريفولي .....
في الصباح وفي الليل ، تنحدر مدارس المستقبل الشعرية والتشكيلية والسياسية وتمزق روح الاستعمار ، يزف مسائها ، صبحها ، ويرطب صبحها أوقاتها بالصحف المختلفة الألوان واللغات : شجرة ، تجدد في كل دورة مياه أغصانها وشارات الأصوات المكبوتة بالأوثان وظلال المحبوبة المخيطة أحلامها مع الشباك ، أحاديث الأوبئة القادمة من الصين أو على متن الزوارق الهندية ، أنباء العملة الجديدة وأقاويل حريم الوالي الثائرات على طاقته المتوارية واعتراف المناضل الذي دقوا رأسه مع صياح ديك المعتقل.
كم أعطتنا تلك المقاهي بأنوارها نصف المضاءة جملة الدليل وتفصيله ، نكهة الحرف والصورة وحزننا المزروع في أحشاء البلاد ، صداها المثقل بمناجاة الفصول وأوهامها.
حاملات أسرار الوقت الإنساني ، فكم من أشنة أديب وفنان تركته يافعا ، لتعود وترى الشيب قد خطــّـه ووشوش الظلام ابتسامته ، كم أوت من عابري السبيل الى الأدب والفن والحظ والسياسة والعمارة والدور المقفرة. ولم يكتب لأي مشهور أو مغمور ، صنــّاع أو موهوب ، عالق بثياب القصيدة أو حامل روابطها القانية ، إلا وتمدد على تخوتها وعبء الدخان في أركانها ، وإن أقفلت أبوابها ، فهي القرية التي لا تجلي أضواءها بالماء، وإن أعتمت زواياها ، تتبادل القلوب إنارتها ماحية الفراغ بأمل الكلمة والنغم والعبارة المحدثة.
إليكم أسماء قرى المعرفة العراقية وواحاتها المجدولة بجماع الكلام ، بغيثها وبريق أغوارها ، بسعيها الظافر وأبطالها الغائبين على ضفة المرسى المعشوشب .. مبادرة لتجرع بعض الموت وعناق البحيرة طلبا للمساء ، الجامعات التي يسمونها اختصارا خشية مضيعة الوقت : المقاهي!
خان جغان
ذو استخدام متعدد ، أقدم المقاهي الأدبية في العراق : خان جغان ، الذي افتتح في العام 1590 ، فتجد فيه الرحالة والخيالة والعسس وقراء الصحف التركية التي كانت تنتشر على طاولاته ويسمح بقراءتها بالمجان كأسلوب لتتريك البلاد.
عقدت فيه أولى المراهنات على أبطال الوطن بالنرد والدومينو واستراح فيه عمال المسطر ، فاستحق بجدارة المثل الشعبي أو الوصف الذي يطلق على المكان الذي يؤمه أيا كان في أي وقت ، حيث ما زال العامة العراقيون يتندرون حول المكان السائب الذي لا صاحب له : قابل هذا خان جغان؟!
هو مقهى الوعي الاجتماعي والوطني غير المكتمل الذي لا يفرق لديه أن تجد نفسك فيه أو خارجه ، فيه الدماثة والطرافة واللعب على الذقون والتظاهر بمعرفة اللغة التركية والغور في نقاشات حول الطيور بين المطيرجية بالأهمية نفسها حين يدور الحوار عن الخيول أو وزراء الوالي أو رؤية الهلال.
الخفــّـافين
هو السنام الذي حمل المثقفين العراقيين لثلاثة قرون منذ افتتاحه عام 1704 ، واختلف عن المقهى الرائد المذكور ، أنه ضم بين أركانه الوجهاء والساسة والمتعلمين وحتى علماء الدين الذين كان جميعهم ينظمون الشعر !
لم يكن للخفافين هوية محددة ، ففيها تتبادل ألسن متعددة محاولات الكلام ولم تستأنف صالونها ، ولم تفرّخ أديب أو علامة معروف ، بل وحتى لم تتصل المخطوطات بها بنوع من ذهول المحطات.
الحيدرخانة
اختارت المقاهي مثقفيها أو بالعكس مع دخول الغرباء الجدد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ومثلما تمر مائة سنة على بغداد لتحتضن غرباء آخرين ، وجد الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين أنفسهم بلا نقابات أو اتحادات يجمعون على شرعيتها ، فلم يكن أمامهم غير المقاهي ، فهي لا تمثل حركة أو شخص أو تكتل سياسي ما ، فزائر المقاهي يشعر باستقلاليته طالما يدفع أجور استكان الشاي من جيبه.
تتشابه مقاهي المثقفين العراقيين الآن كثيرا مع تلك التي نشأت مع إطلالة الجيش البريطاني وبالتحديد مع أول تماس عسكري بين المحليين والغرباء في ما سجلها التاريخ بثورة العشرين.
حركت هذه الثورة مع العكل والعمائم والسدائر ، العقول التي تتظلل بها، ولأول مرة في تاريخ العراق المعاصر شعرت البلاد بأنها بحاجة الى جانب البنادق القديمة الى فكر يهذب حماسة السواعد وتعطش الفكر لرجاله واحتاج الرجال الى منابر ، وخلقت هذه الحاجة ، مقاهي الفكر للمرة الأولى.
وبفضل الشاعر والخطيب محمد مهدي البصير الذي اتخذ من جامع الحيدرخانة فضاء وساحة لعرض أفكاره ، ولأن الناس الذين كانوا يتدفقون من كل أنحاء العراق لسماعه يحتاجون الى أماكن للاستراحة وانتظار الخطيب أو تنظيم المظاهرات ، فقد تحولت المقاهي المجاورة لجامع الحيدرخانة الى مستقر أولي لمنشئي حركات النهضة المبكرة في العراق. وبدورها تحولت تلك المقاهي من فراغ لإضاعة الوقت واللقاءات التقليدية الى ملتقى المتعلمين والمتنورين ، وفيها خطت المناشير المضادة والصفحات الأولى لتاريخ سياسي كتب عليه المضي قدما.
عارف آغا
وضمت بين أركانها طليعة المجتمع العراقي المتعلم والمغبون في الوقت نفسه ، وبرز دورها بعد 10 سنوات من انحسار دور مقاهي الحيدرخانة التي غاب عنها خطيبها.
وكان ما يعرف بالموظفين المفصولين لأسباب سياسية وأغلبهم من المعلمين والمدرسين النواة الأولى لظهور أسماء ، كتب لها أن تلعب دورا رائدا في الحياة السياسية والثقافية العراقية كمعروف الرصافي وجعفر أبو التمن وحسين علي البزركان وغيرهم.
يذكر أن أكثر الفترات التي ازدهرت بها هذه المقهى ، هي التي اشتدت فيها الخلاف بين الشاعرين معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ، وعندها ابتعد الأول عن مقهى الزهاوي ليركن له مكانا فيها مع أنصاره.
ويسجل لهذا المقهى أنه شهد المصالحة التاريخية بين الشاعرين اللدودين المذكورين ، وظهور البواكير الأولى للشاعر أحمد الصافي النجفي والمثقف الطليعي الأب أنستانس الكرملي.
الأمين
وهي المقهى الأول الذي يقام على أنقاض سينما ، وكانت هذه السينما هي روكسي ، التي ولدت في بغداد مع انبثاق فن السينما في العالم وواكبت كل الأفلام الرائدة الصامتة منها والناطقة.
ولأنها معقل السينما وبواباتها فتحت لعشاق الفن ، فقد أصبحت بعد زوالها ، مقهى يجمع الفنانين ، الذين كانوا بغياب المسرح من الموسيقيين والعازفين وكتاب الأغاني وقراء المقام العراقي الذين اشتهر من بينهم رشيد القندرجي.
الزهاوي
وهي فريدة في مسألتين : الأولى ، أنها ظلت محافظة على هويتها حتى يومنا هذا ، والثانية ، هي المقهى الرائد الأول الذي أنجب الحركات الثقافية وعدد لا يستهان به من المثقفين في مجال الأدب والصحافية والفن والسياسية والعلوم.
وليس غريبا أن تطلق على أسم الشاعر والمفكر جميل صدقي الزهاوي ، الذي بدأ أولى المعارك الأدبية العربية مفتتحا إياها بسجالاته المنشورة ضد عباس محمود العقاد والقصائد الهجائية المتبادلة مع معروف الرصافي.
تجلس اليوم في مقهى الزهاوي التي قال صاحبها لنا بأنه لم يغلقها حتى يوم 9 أبريل ، وبأنها أعز عليه من بيته ، لترى غير تلك الوجوه التي أزهرت الأدب العراقي.
غير أنها تنتعش بهم صباح كل جمعة ، حيث يشجع الأدباء الجلوس فيها نشاط شارع المتنبي وبحثهم الدءوب عن الجديد من الكتب المستنسخة والمستوردة حديثا.
البرلمان
وهي التي انتقلت إليها النخبة في الأربعينات ، لسببها المهم وهو أن الذي يفضل الجلوس فيها لا يكون غير محمد مهدي الجواهري. واستعارت أسمها مما أسميناهم النخبة وهم أعضاء البرلمان والأعيان والوجهاء.
فيها ألقى الجواهري قصائده المحركة والمهيجة للشارع البغدادي ، ومنها انطلقت المظاهرات المسيسة والمنظمة ، بالرغم من أن صانعها الأكبر لم يكن منتم الى حزب سياسي بعينه. فقد كان لوحده حزب ولديه المحرك والعجلة والمقود.
تستمر البرلمان حتى يومنا هذا أنيقة ، وأن هجرها الأدباء ومحبيهم ، لكنهم يطلون من ثقوبها أحيانا ، لبضعة دقائق ، لعلهم يستذكرون عميدهم الشاعر الأكبر.
الواق واق
لم يبق لها ذكر ، غير أنها ضمت ألمع أدباء العراق وفنانيه. وكان انتهاء الحرب العالمية الثانية المبشر الأول لافتتاحها بتمويل شخصي من رائد التشكيل والنحت العراقي جواد سليم.
ولمت هذه المقهى كل متسكعي الأدب العراقي الأوائل كحسين مردان وإبراهيم اليتيم وبرز فيها رواد كبار كفؤاد التكرلي وشقيقه نهاد والشاعر بلند الحيدري والقاص عدنان رؤوف والرسام الكبير جميل حمودي.
كان الشعراء منهم يمرون في الفترة الضيقة من التحول الى الشعر الحر والقصاصين مندهشين من روايات وليم فولكنر وجيمس جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست والتشكيليين لم يبطل نقاشهم عن التكعيبية وكلهم لم يحسموا موقفهم من السريالية والدادائية.
ولأن أغلبهم ضائع بين هذه المدرسة أو تلك فقد أصدروا صحيفة " الوقت الضائع " التي حملت فيما بعد اسم المجموعة التي تبنتها.
ولم يسجل أي نشاط سياسي حقيقي لهم ، لكنهم غيروا الكثير جدا من إيقاع الثقافة العراقية حتى يومنا هذا.
اندثرت هذه المقهى الواقعة في ساحة عنتر ويعرض على أنقاضها الآن أثاث مستعمل للبيع ، يمشطه غبار الأعظمية.
البلدية
يعدّ مقر الجبهة الوطنية للمثقفين العراقيين. فبعد اشتداد النزال بين البعثيين والشيوعيين عقب أحداث 1959 ، انزوى أدباء الحزبين الى هذا المقهى بالذات المقابل لوزارة الدفاع ابتداء من بدر شاكر السياب وحتى جماعة كركوك الواسعة الثراء الأدبي.
في هذا المقهى تأسس الحوار الأدبي الخالي من دموية الحزبيين ، بالرغم من أن الأدباء كانوا منتمين للحزبين المذكورين.
ولم يعرف كاتبا ستينيا واحدا ، لم يجلس في هذا المقهى ويبح صوته نقاشا في ما يتصور أنه الأصح في السياسة والأدب على السواء.
حسن عجمي
جلست فيها خمسة أجيال أدبية ، من الخمسينية وحتى التسعينية. ولم يعرف أديب واحد في العراق لم يجلس فيها ، منذ أن ألقى فيها الجواهري قصيدته المؤثرة " أخي جعفر ".
لم يعرف كم من القصائد والقصص كتبت فيها وعنها وكم حوادث أفلام ومسرحيات نسجت فيها ومنها.
هي المقهى – المحطة التي يتعارف فيها الأدباء القادمون من كل أنحاء العراق على زملائهم الساكنين في العاصمة لكونها ليست بعيدة عن الميدان ولا عن الحيدرخانة وبالقرب منها تنتشر الفنادق والمطاعم الرخيصة التي تأوي الأدباء والمثقفين وتطعمهم.
كان الأدباء يجلسون فيها منذ الواحدة ظهرا حتى الرابعة عصرا ليتمشوا عبر شارع النهر ومرورا بالرشيد والسعدون الى مشرب " المرايا " في ساحة الأندلس ومنه يكملون ليلتهم في حدائق نادي اتحاد الأدباء صيفا وقاعته المدخنة شتاء والذي لا يبعد كثيرا من مراياهم.
بعد انهيار ساحة الميدان وتحولها الى وكر للصوص ونهابي الحرب المنقضية وزوال كل الأسباب المحترمة التي تجعل الأديب منشرحا ، هجرها الأدباء بعد نصف قرن من تدثرهم بها.
البرازيلية
كما لو كانت قاعة انتظار في مستشفى معقم ، يطل على منظر حسن في منتصف شارع الرشيد.
ارتاده الأدباء والفنانين والتشكيليين عندما يكون مزاجهم رائقا ويرتدون بدلات نظيفة يحافظون على عدم اتساخها في المقاهي الأخرى. فلهذا المقهى أتكيت وبروتوكولات خاصة ونادليه يرتدون اللباس الأبيض الذي ذكرنا بالمستشفى في مقدمة تعريف المقهى ويجهزون مختلف أنواع القهوة.
لا تذاع فيه أغنية وغير مسموح لتداول أي نوع من الألعاب التقليدية التي تصدر أصوات تزعج صمت المقهى الأثيري ، الذي وأن حافظ على جماله حتى الآن ، لكن أي من الأدباء يفضل الابتعاد عن مشاكل شارع الرشيد وقطاع الطرق المزروعين فيه.
الشابندر
يقع في حلق سوق السراي للكتب ونهاية شارع المتنبي الذي ورث مهنة السراي. وبالقرب منه وقعت أول مقر لبلدية بغداد والمدرسة المستنصرية وباب القشلة ومتصرفية بغداد ، وتأسس في اللحظات التي كانت فيه الحرب العالمية الأولى تحصى نتائجها وموتاها ومستعمراتها.
وقوعها بالقرب من كل المباني الحكومية البغدادية الأساسية جعلها واحة للمراجعين وطالبي التعيين وحلالي المشاكل مع الدولة ، أضف إليهم المثقفين الزائرين سوق السراي ، فقد كانت تشكيلة متوازنة بين المتعلمين والمبدعين. وليس غريبا أن يكون تأسيسها على أنقاض مطبعة الشابندر الشهيرة.
يجلس الآن فيها كل أدباء العراق وفنانيه ، لا سيما الشباب ، وفي الجمعة تشبه تنور يبث الدخان واللهاث والمحاولات الأولى لكتابة شيء ذا معنى.
حوار
أول مقهى يعد بيت سكني سابق يقع في حي سكني تقليدي. قربها من أكاديمية الفنون الجميلة ، جعل طلاب الفن وأساتذتهم وأصدقائهم يجذبون إليها بالتدريج الصحافيين والأدباء وزوارهم والباحثين عنهم.
تعمل الآن منذ الصباح وتجهز الفطور والغداء ، ويغادرها مريديها في الرابعة عصرا ، للالتحاق بأول حافلة تقلهم قبل مغيب الشمس ونشاط قطاع الطرق والحياة.
فيها أركان منعزلة وغرف مستقلة ، يقرأ فيها الممثلين نصوص مسرحية وتلفزيونية مكتوبة بخط اليد لمن يريد بكل همة القضاء على أزمة النص.
عزاوي
مطربو المقام العراقي خلدوا " مقهى عزاوي " في الكثير من " البستات " الغنائية ، لأنهم كانوا من رواده الدائمين.
كان مقهى بغداديا مثاليا في كل شيء ، جدرانه ونوافذه وطاولاته وتخوته وطريقة تقديم الطلبات وأزياء النادلين وصاحبه فنان عراقي نعتذر عن نسيان أسمه في هذه اللحظات التي بدأت ذاكرتنا تجول حول ملبسه البغدادي الأصيل وجلوس أصحابه من الفنانين البغداديين الشعبيين كخليل الرفاعي وسليم البصري وغيرهم.
لم يكن مقهى للشباب ، بالرغم من عدم اعتراض أحد على وجودهم، لكن سماته كانت شعبية وعريقة ، لذلك كان المخرجون التلفزيونيون والسينمائيون يفضلون تصوير أفلامهم ومسلسلاتهم فيه بالذات ، فأي خبير في الديكور و الإكسسوار لا يستطيع منح ما كانت هذه المقهى تعبر عنه وعلى الهواء البسيط مباشرة.
اندثرت هذه المقهى بكل ما تعنيه هذه المفردة من معنى وأصبحت من توابع التي يمكن أن نسميها يوما " أنقاض البلاد".
المنسيات
لم يختر الأدباء والمثقفين مقاهيهم على هوى أقدامهم ، بل جعلوا لكل مقهى سبب. ولم يجلسوا في مقهى واحد ، بل كان الأديب منهم ، يجلس في أكثر من مقهى ، حتى في اليوم الواحد ، تبعا للسبب والبطل والقضية. وكتعاقب الأجيال الأدبية والفنية ، فللمقاهي تعاقبها أيضا ، كالحضارات التي تعلو وتندرس وكالمدن.
نترك الكلام في تتبع ظلال مقاه نسيت .. مجرد ذكر أسمائها لن يبدأ فيها الحياة من جديد : الصباح ، أم كلثوم ، ياسين ، الدفاع ، إبراهيم عرب ، السويس ، المعقدين ، السويسري ، جرداغ ، تريفولي .....