بالكاد تحركت بغداد.
نذكر عندما كانت مدينة كلها ليل ! طاردت أعيننا أي شيء فيها يلمع وأي حديد يتحرك : دبابة ، تشرق ظلمتها .. نهارها سهاد ، ناعسة محشور تقصيها في ما قل ودلّ.
لأسابيع نطوي وحدنا شوارعها الصموتة ، وبالتدريج اختنقت بالزحام ، فرحة أن تكون ليس لوحدك في هذه الضغينة.
غير أن احتفالية الزحام ، تحولت الى مرض عضال ، ينبجس الغبار فيميت آخر طائر وسنان في هذيان الطرق.
في فراغ المدينة يقتحم عينيك سكون الإسفلت ، وما أن تنبسط المآثر وتتحطم التماثيل وتهوى التصاريح ، ينبض القمر بليلة جديدة تبتسم فيها النجوم لضياء يريد أن يكتمل.
هكذا ، ارتقت بغداد السلــّم ، الغائص في جذر الشجرة.
كلّ مشاكلها انحصرت في أنها ضيعت مفتاحها ، ولم يساعدها أهلها في أن تبلغه.
فالزحام والتزاحم ، عناد لندوب لا تريد أن تندمل : من يوقف شاحنته في منتصف الطريق ، من لا يريد رؤية إشارة المرور ، من لا يشفق على ساعد الشرطي الساخن تحت الشمس والمبلول تحت المطر ، من يتلذذ بإهانة الجميع ومن فطن على سرعة سيارته المسروقة.
تستسلم العاصمة لشر العناكب ودهشة الحرية إن تجسدت على قارعة الطريق.
ما أن يغيب التنظيم تعم الفوضى ، والزحام غير المقصود به في طوكيو أو مكسيكو سيتي أو موسكو ، فهو الزحام الضجر ، الذي أسبابه من ألفها الى يائها ؛ مصنوعة ، مفتعلة ، فاقدة للحس الوطني ، الشعور بالمسؤولية وحتى احترام النفس.
غير أن السائقون يستخدمون في أحيان كثيرة السلاح في حل مشاكل عادية كالاصطدام أو التسابق في السير أو الاجتياز.
وهناك الدوران 360 درجة والعودة باتجاه معاكس وعرقلة السير. أما استخدام إشارات السيارات في المنعطفات أو أثناء التوقف فأصبح أمرا شاذا لمن يستخدمه.
ويعاني الشارع العراقي من سيارات حاشيات مراكز القوى ومواكبهم ، فهؤلاء يريدون القفز على رؤوس الناس واجتياز الشارع مهما كلف الأمر.
وبالإضافة الى الزحام الفظيع ، فالجميع يستخدمون المنبه في أي وقت وفي أي مكان وبشكل مستمر خالقين ضجة لا يمكن سماعها.
وثمة ظاهرة المخمورين ، أو الذين يوقفون سياراتهم في أماكن معينة وحتى على الطرق السريعة لتعاطي الخمور وربما أشياء أخرى بحيث حولوا سياراتهم الى مطاعم صغيرة متجولة.
وأكثر ما آلمنا من مناظر في شوارع بغداد ، تلك الحادثة التي اعتدى فيها خمسة مخمورين كانوا يستقلون سيارة قذرة على أحد المتطوعين الذين تحملوا مذلة وحر الشارع للعمل على تنظيم السير بالمجان في أوقات انعدام وجود الشرطة. اعتدى هؤلاء على هذا الفتى بالضرب ، لأنه ببساطة حاول إيقافهم لأنهم خالفوا السير وحاولوا تعطيله بناء على نزواتهم.
وقالوا في مديرية المرور العامة بأنهم سجلوا بشكل مؤقت 70 ألف سيارة في بغداد و 30 ألف سيارة في باقي المحافظات.
كما أنهم حددوا ضوابط لاستيراد السيارات منها منع استيراد السيارات التي يقل طرازها عن عام 1990 وتلك التي مقودها في اليمين وزجاجها مظلل.
ومنحوهم فرصة لتطبيق القانون ، لغاية 31 ديسمبر 2003 وشهرين لتحوير السيارات المظللة وذات المقود في اليمين بعد شهرين من التسجيل المؤقت.
لكن الحالة المزرية التي مرت بها بغداد وباقي المحافظات ، كانت عندما فقد الوقود بها تماما ، واضطرار جنود التحالف أخذ الأمور على عاتقهم في محطات تعبئة البنزين في الأسبوعين الأولين بعد سقوط النظام، عادت الآن في بغداد والمدن الأخرى.
وعادت معها طوابير الانتظار على حصة البنزين من الليل حتى الصباح وبدت مناظر كيلومترات السيارات الواقفة وبيع الطوابير وأشياء منافية للحياة تظهر في العاصمة.
صحيح ، أنهم أصدروا قانون يقضي بمحاسبة الموظف أو المواطن الذي يتاجر بالوقود خارج محطات التعبئة بالسجن 3 – 10 سنوات ، إلا أن هذا القرار لا يسجن ولا يحرر الوقود من الصهاريج. بل بالعكس ، فالبنزين بسوقه البيضاء والسوداء اختفى تماما من بغداد.
وإذا كان أصحاب الجيليكانات مشمولين بقرار السجن ، فلا يوجد قرار يشمل من يعطي وقوده من سيارته الى سيارة أخرى.
فبعد صدور القرار ، يقوم أصحاب السوق السوداء ببيع وقودهم من سياراتهم في الأزقة الفرعية الى الراغبين وبأسعار عالية جدا.
ومن حق ضباط المرور في البلاد التأكيد على أن من أهم أسباب الأزمة إغلاق أكثر من 60 طريقا رئيسيا في العاصمة العراقية وحدها ، يضيف الى ذلك مئات الآلاف من السيارات الحديثة التي دخلت الى العراق ( حديثة بالنسبة للشارع العراقي بالطبع ! ).
إذن فأن " الأسباب الأمنية " لم تعطل إجراء الانتخابات فحسب ، بل وسدت منافذ الطرق والتي كانت تعد شريان المسير في بغداد.
فلو تسد ساحة النسور ستوقف سيل المركبات القادمة من أحياء الشرطة والعامرية واليرموك والدورة والسيدية والمعالف ،،، وإذا كانت تتوزع سابقا في ثلاثة اتجاهات كأم العظام وطريق القادسية السريع الى نفق حلب باتجاه فندق الرشيد ، فأن هذه الحركة تعتبر مشلولة تماما بسبب إغلاق النسور ومربع الرشيد. وهذا مثال واحد فقط من نحو ستين ، كالإحصاء الذي يشير الى أن ساحة دمشق مثلا ، كانت تستوعب 300 % من قدرتها من السيارات ، لكنها بعد إغلاق المنافذ إليها ترعى 25 % منها فقط.
هذه المشاكل التي طرحت تحتاج الى دولة كاملة لكي تحلها ، فالباعة الذين يعرضون بضاعتهم يمنعون من وزارة الأشغال والبلدية وليس من شرطة المرور وطوابير تعبئة الوقود تحل مشكلتهم وزارة النفط والإشارة الضوئية غير المحترمة حلها عند وزارة الكهرباء والمضغوطين نفسيا يريدون دولة تهيئ لهم العمل والأمان والتعليم والصحة وهواتف وكهرباء وماء صحي وغيرها.
والقانون هو الكل ، هو نحن ، الأسماء والمسميات وأن ينظر الناس بعين الاحترام لقيادتهم ووزرائهم ، فاحترام شرطي المرور من احترام الوزير والرئيس وهذه علاقة العامة بأولي الأمر حتى من الناحية الشرعية والأخلاقية.
فعلام العتاب في المسألة المطروحة هنا ؟ على المواطن المسحوق منذ خمسين سنة الذي رقص وفرح ليلة واحدة من الحرية ، أم على المتعطشين للمناصب والذين جاءوا بعد " النضال " ليعيدوا على الناس الأسطوانة من بدايتها لنهايتها : جشع مراكز القوى للسيطرة على الأموال العامة والأراضي والممتلكات والعقارات والمصانع وكل ما يمكنه أن يدرّ عليهم من أموال الشعب المنهك ، الشديد العوز .
نذكر عندما كانت مدينة كلها ليل ! طاردت أعيننا أي شيء فيها يلمع وأي حديد يتحرك : دبابة ، تشرق ظلمتها .. نهارها سهاد ، ناعسة محشور تقصيها في ما قل ودلّ.
لأسابيع نطوي وحدنا شوارعها الصموتة ، وبالتدريج اختنقت بالزحام ، فرحة أن تكون ليس لوحدك في هذه الضغينة.
غير أن احتفالية الزحام ، تحولت الى مرض عضال ، ينبجس الغبار فيميت آخر طائر وسنان في هذيان الطرق.
في فراغ المدينة يقتحم عينيك سكون الإسفلت ، وما أن تنبسط المآثر وتتحطم التماثيل وتهوى التصاريح ، ينبض القمر بليلة جديدة تبتسم فيها النجوم لضياء يريد أن يكتمل.
هكذا ، ارتقت بغداد السلــّم ، الغائص في جذر الشجرة.
كلّ مشاكلها انحصرت في أنها ضيعت مفتاحها ، ولم يساعدها أهلها في أن تبلغه.
فالزحام والتزاحم ، عناد لندوب لا تريد أن تندمل : من يوقف شاحنته في منتصف الطريق ، من لا يريد رؤية إشارة المرور ، من لا يشفق على ساعد الشرطي الساخن تحت الشمس والمبلول تحت المطر ، من يتلذذ بإهانة الجميع ومن فطن على سرعة سيارته المسروقة.
تستسلم العاصمة لشر العناكب ودهشة الحرية إن تجسدت على قارعة الطريق.
ما أن يغيب التنظيم تعم الفوضى ، والزحام غير المقصود به في طوكيو أو مكسيكو سيتي أو موسكو ، فهو الزحام الضجر ، الذي أسبابه من ألفها الى يائها ؛ مصنوعة ، مفتعلة ، فاقدة للحس الوطني ، الشعور بالمسؤولية وحتى احترام النفس.
غير أن السائقون يستخدمون في أحيان كثيرة السلاح في حل مشاكل عادية كالاصطدام أو التسابق في السير أو الاجتياز.
وهناك الدوران 360 درجة والعودة باتجاه معاكس وعرقلة السير. أما استخدام إشارات السيارات في المنعطفات أو أثناء التوقف فأصبح أمرا شاذا لمن يستخدمه.
ويعاني الشارع العراقي من سيارات حاشيات مراكز القوى ومواكبهم ، فهؤلاء يريدون القفز على رؤوس الناس واجتياز الشارع مهما كلف الأمر.
وبالإضافة الى الزحام الفظيع ، فالجميع يستخدمون المنبه في أي وقت وفي أي مكان وبشكل مستمر خالقين ضجة لا يمكن سماعها.
وثمة ظاهرة المخمورين ، أو الذين يوقفون سياراتهم في أماكن معينة وحتى على الطرق السريعة لتعاطي الخمور وربما أشياء أخرى بحيث حولوا سياراتهم الى مطاعم صغيرة متجولة.
وأكثر ما آلمنا من مناظر في شوارع بغداد ، تلك الحادثة التي اعتدى فيها خمسة مخمورين كانوا يستقلون سيارة قذرة على أحد المتطوعين الذين تحملوا مذلة وحر الشارع للعمل على تنظيم السير بالمجان في أوقات انعدام وجود الشرطة. اعتدى هؤلاء على هذا الفتى بالضرب ، لأنه ببساطة حاول إيقافهم لأنهم خالفوا السير وحاولوا تعطيله بناء على نزواتهم.
وقالوا في مديرية المرور العامة بأنهم سجلوا بشكل مؤقت 70 ألف سيارة في بغداد و 30 ألف سيارة في باقي المحافظات.
كما أنهم حددوا ضوابط لاستيراد السيارات منها منع استيراد السيارات التي يقل طرازها عن عام 1990 وتلك التي مقودها في اليمين وزجاجها مظلل.
ومنحوهم فرصة لتطبيق القانون ، لغاية 31 ديسمبر 2003 وشهرين لتحوير السيارات المظللة وذات المقود في اليمين بعد شهرين من التسجيل المؤقت.
لكن الحالة المزرية التي مرت بها بغداد وباقي المحافظات ، كانت عندما فقد الوقود بها تماما ، واضطرار جنود التحالف أخذ الأمور على عاتقهم في محطات تعبئة البنزين في الأسبوعين الأولين بعد سقوط النظام، عادت الآن في بغداد والمدن الأخرى.
وعادت معها طوابير الانتظار على حصة البنزين من الليل حتى الصباح وبدت مناظر كيلومترات السيارات الواقفة وبيع الطوابير وأشياء منافية للحياة تظهر في العاصمة.
صحيح ، أنهم أصدروا قانون يقضي بمحاسبة الموظف أو المواطن الذي يتاجر بالوقود خارج محطات التعبئة بالسجن 3 – 10 سنوات ، إلا أن هذا القرار لا يسجن ولا يحرر الوقود من الصهاريج. بل بالعكس ، فالبنزين بسوقه البيضاء والسوداء اختفى تماما من بغداد.
وإذا كان أصحاب الجيليكانات مشمولين بقرار السجن ، فلا يوجد قرار يشمل من يعطي وقوده من سيارته الى سيارة أخرى.
فبعد صدور القرار ، يقوم أصحاب السوق السوداء ببيع وقودهم من سياراتهم في الأزقة الفرعية الى الراغبين وبأسعار عالية جدا.
ومن حق ضباط المرور في البلاد التأكيد على أن من أهم أسباب الأزمة إغلاق أكثر من 60 طريقا رئيسيا في العاصمة العراقية وحدها ، يضيف الى ذلك مئات الآلاف من السيارات الحديثة التي دخلت الى العراق ( حديثة بالنسبة للشارع العراقي بالطبع ! ).
إذن فأن " الأسباب الأمنية " لم تعطل إجراء الانتخابات فحسب ، بل وسدت منافذ الطرق والتي كانت تعد شريان المسير في بغداد.
فلو تسد ساحة النسور ستوقف سيل المركبات القادمة من أحياء الشرطة والعامرية واليرموك والدورة والسيدية والمعالف ،،، وإذا كانت تتوزع سابقا في ثلاثة اتجاهات كأم العظام وطريق القادسية السريع الى نفق حلب باتجاه فندق الرشيد ، فأن هذه الحركة تعتبر مشلولة تماما بسبب إغلاق النسور ومربع الرشيد. وهذا مثال واحد فقط من نحو ستين ، كالإحصاء الذي يشير الى أن ساحة دمشق مثلا ، كانت تستوعب 300 % من قدرتها من السيارات ، لكنها بعد إغلاق المنافذ إليها ترعى 25 % منها فقط.
هذه المشاكل التي طرحت تحتاج الى دولة كاملة لكي تحلها ، فالباعة الذين يعرضون بضاعتهم يمنعون من وزارة الأشغال والبلدية وليس من شرطة المرور وطوابير تعبئة الوقود تحل مشكلتهم وزارة النفط والإشارة الضوئية غير المحترمة حلها عند وزارة الكهرباء والمضغوطين نفسيا يريدون دولة تهيئ لهم العمل والأمان والتعليم والصحة وهواتف وكهرباء وماء صحي وغيرها.
والقانون هو الكل ، هو نحن ، الأسماء والمسميات وأن ينظر الناس بعين الاحترام لقيادتهم ووزرائهم ، فاحترام شرطي المرور من احترام الوزير والرئيس وهذه علاقة العامة بأولي الأمر حتى من الناحية الشرعية والأخلاقية.
فعلام العتاب في المسألة المطروحة هنا ؟ على المواطن المسحوق منذ خمسين سنة الذي رقص وفرح ليلة واحدة من الحرية ، أم على المتعطشين للمناصب والذين جاءوا بعد " النضال " ليعيدوا على الناس الأسطوانة من بدايتها لنهايتها : جشع مراكز القوى للسيطرة على الأموال العامة والأراضي والممتلكات والعقارات والمصانع وكل ما يمكنه أن يدرّ عليهم من أموال الشعب المنهك ، الشديد العوز .