" جمهور يضحك لكن لا يعرف الابتسام "
- ادغار آلان بو -
لا يوجد شعب يحب المرارة ويهوى السأم ويتمنى العيش فوق خمسين مئوي بلا كهرباء و يموت يوميا حتى من الخوف والإشاعة. وإن فرضت على العراق المأساة تلو الأخرى ، فالعراقيون ينضحون بما فيهم من إقبال على الدنيا وأجنحتها الذاوية مداوين أيامهم المثقلة كمن يزرع زهرة وسط قش من الصبير والعاقول.
ومن بينهم هناك الذين ينقرون الكلمات بسرعة بديهية يبدو أنها موروثة جيل بعد آخر ، ففي التراث العربي العديد جدا من ملاك البديهية البارقة وذوو العقول التي تستجيب أسرع من غيرها للمحة والإجابة المستقرة في الجوهر.
واشتهرت الشعوب التي وقع عليها ضيم الأنظمة كما كان يعالج السوفيتي القسوة المفروضة عليه أبان الحكم الستاليني والمصري المضغوط كثيرا اقتصاديا وسياسيا وغيرهم من الشعوب التي كانت تصدر الضحك بالرغم من المعاناة البالغة التي تعيشها.
ويبدو أن العلاقة طردية ما بين الآلام والضحك عليها ، وتميز العراقيون منذ العهد الملكي باهتمامهم للنكتة والتعليق الطريف وكانت مجموعة "حبزبوز" التي أصدرت مجلة وجريدة واسعة الانتشار أكثر من قصائد الجواهري وبحر العلوم ، رائدة في مجال النكتة السياسية والاجتماعية ، فلم يتعرض له منشور عراقي من مضايقة ، قدر تعرضها ومجموعة الكتاب والمعلقين ورسامي الكاريكاتير الذين لم يتركوا قضية مهما كان حجمها ، إلا وعالجوها في نكتة أو رسم.
لقد كانت الحكومات التي تدرك عدم شرعيتها الكاملة تخاف أكثر من غيرها من النكتة الشعبية ، كما أن الكثير من الأنظمة ، العراقي السابق على سبيل المثال ، تؤسس هيئات خاصة تطارد النكتة وتسجلها وتعدلها وتغير اتجاهها ، وثمة الكثير من المعطيات التي تدلل على أن صدام كان مستمعا جيدا لتلك التقارير التي تحصر فيها " نكات الأسبوع " ويسمع ويدقق اكثر في تلك التي تتولى أمره أو عائلته او تاريخه وتصرفاته.
وكان لانتشار النكتة أوقات القمع الصدامي أثره البالغ حتى في سير الحياة اليومية للعراقي ، فقد أصدر " مجلس قيادة الثورة " قرارا يحاكم فيه بالإعدام من يتندر على " رمز الأمة " و " قائد نهضتها " ، وكانوا لا يعنون مؤلفي النكات فحسب ، فهؤلاء يغلوهم بالتيزاب ، بل كل من تسول له نفسه ويرددها أو يسمعها ، بل أن الأمر قسم كالتالي : فأحكام مؤلف النكتة عرفناها ، والذي يرددها إعدام 100 % والذي يسمعها ويضحك يرافقه الى المشنقة ومن يسمعها ويسكت دون أن يخبر سجن مؤبد.
وهذا القانون لم يشمل الذات الصدامية فحسب ، بل حددوا فيه ما كانوا يسمونه " القيادة " ، لكنهم حددوا العقوبة على النكات التي تشمل عزت الدوري فما دون بالسجن المؤبد.
ومع ذلك ، وبالرغم من إعدام المئات وربما الآلاف من العراقيين بسبب مزاح أو جلسة غير بريئة تخللتها بعض التعليقات المضحكة التي تخص "القيادة" وقائدهم الضرورة ، فأن العراقيين استمروا في التنفيس عما أصابهم ولم يستطع أحد من منع انتشار النكتة التي كانت النافذة الوحيدة المتاحة للابتسام في البلاد.
ترجمة وتحوير
واضطر النظام في مراحل كثيرة ، متعددة ومختلفة ، من توجيه الرأي العام بالنكتة ، من خلال التركيز على شخصيات أو طوائف أو قوميات ، وكانت أقسام مهمومة ومشغولة بترجمة النكات وتجميعها وتوزيعها من خلال الجهاز الحزبي الضخم المنتشر وسط الشعب ، بحيث وصلت المنافسة ما بين أقسام النكات في المخابرات الى إيصال النكتة وقياس سرعة انتشارها بين الناس بالساعات وليس بالأيام.
وبالرغم من أن النظام صنع شعرائه وكتابه وممجديه ومذيعيه ومطربيه ورساميه ، إلا أنه كان يعاني من قلة المنكتين وصناع الضحك المحترفين لديه، لذلك لجأ الى جانب ترجمة النكات العالمية ، الى تحوير النكات العربية ولاسيما المصرية واللبنانية لوضعها في قالب عراقي وتوجيهها بالشكل الذي يريدون.
الحلي والدليم
فقد أشغلوا العراقيين ليومنا هذا بالآلاف النكات الخاصة بسعدي الحلي ، والمرحوم هو مطرب شعبي يحبه العراقيون البسطاء للغاية وينتشر في أوساطهم ، لذلك تحول الى مادة دسمة للضحك ، لاسيما وأن النكات المرتبطة به تطرح مسألة هي بالأساس تثير الضحك ، وبالمناسبة هناك الآن موقع عراقي متخصص بالنكات أسمه : سعدي الحلي دوت كوم !! يمكن الدخول إليه والإطلاع على آلاف النكات الحديثة.
ويبدو أن صدام كان يبغى إبعاد النكات عنه وتوجيهها الى أي شخصية أخرى ، فوجدوا هذه الشخصية الشعبية الشهيرة لكي يؤلموه بها يوميا. ولم يكتفوا بذلك ، فقد انتشرت موجة فظيعة من النكات على قبيلة الدليم الواسعة الانتشار في وسط وغرب العراق بعد محاولة الانقلاب التي قادتها مجموعة محمد الدليمي ، فلم يكتف صدام بإعدامهم جميعا ومن والاهم ومن سلموا عليه بالصدفة ، بل وجه كل النكات العالمية والمحلية وخاصة المصرية التي تتناول شخصية الفلاح الصعيدي البسيط ، ليعرّقها ضد خصومه الدليم.
وكان يفعل الشيء نفسه مع غرمائه السياسيين ، فلم يمانع من انتشار النكات حول الرؤساء العرب أوقات خصوماته لهم ، بل شجعها وساهم في نشرها حتى على صفحات الصحف الرسمية وكانت قمة هذا العمل أوقات الحرب العراقية – الإيرانية حين اهتمت صحف رسمية كالثورة والجمهورية في بث رسوم ونكات مستمرة على القيادات الإيرانية ورجال الدين المعممين بشكل عام.
وجوه اجتماعية
وعلى مدار العصور ، كان صناع الضحك في العراق الأشهر من الساسة والعلماء والشعراء والفنانين ، فلا يوجد أحد في البصرة لا يعرف " تومان " أو " غنـّو " أو " حميد كلن " ، كما لا ينسى المضحكون رائدهم حبزبوز ورسامين كاريكاتير كانوا يستدرجون النكات يوميا مثل غازي وبسام فرج وخضير الحميري وعباس فاضل وضياء الحجار. فلم يفوتوا مناسبة واحدة أو تصريح فيه مرونة للنقد أو حتى إشاعة دون أن يلتقطونها ، فمثلا يبرزون الجدل حول الدستور ، حيث يقول طبيب لمريض : لا تقلق فقراتك كلها جيدة ، المشكلة في مكان آخر . وذلك المتقاعد الذي يطمأن زميله في المظاهرة التي تطالب برواتبهم: لم يبق شيء ، كلها 90 مظاهرة و 140 احتجاج و70 اعتصام ويستجيبون لمطالبنا.
وحول المتاريس والكتل الإسمنتية التي تملأ شوارع وساحات البلاد ويصورون العراق كسيارة قديمة متعبة يحمل صخور الأزمات المصطنعة والقوانين المزاجية والبيروقراطية والفساد الإداري والدكتاتورية والسجون وتقترب النكتة العراقية المعاصرة من الصورة الحقيقية التي تعيشها البلاد ، ولعل هذا الاتفاق ، يجيز للناس تداولها بلا مشقة ولا خوف ففيها كل العناصر الناجحة من حيث الشكل ودقة الاختيار ولمحة التعليق.
المضحكون المجهولون
وإذا كان ثمة مضحكين معروفين ولديهم فرص التعبير عن تعليقاتهم وتلميحاتهم المضحكة عبر الصحف أو التلفزيون وأحيانا يسجلونها على كاسيتات وتوزع على الأرصفة ، فهناك المضحكون المحترفون ، الذين تنبع منهم كل النكات الشعبية المعروفة ، وليس تلك المترجمة أو المحورة أو المسروقة من كتب التاريخ والتراث والفلكلور ، وعثرنا على المجموعة الأهم في واحدة من أقدم الأحياء البغدادية.
لقد تجاوز أصغرهم الآن الستين وكانوا فيما قبل مراكز الترفيه أين يحلون. ولم تكن غير المقاهي وجلسات السمر في باحات الخانات أو دار من أصبح عازبا منهم لسبب أو لآخر ، الساحات التي يغردون فيها أجمل النكات.
يقول أبو هادي ، بأن المحيطين بك هم الذين يساعدونك في تركيب النكتة وإطلاقها ، فهم المهيئين لأجوائها وبدونهم لا تستطيع الجلوس وتاليف نكتة ، فالمسالة ، باعتقاده ، ليست بسيطة كما تسمع نكتة معادة من أحدهم ، ففي هذه الحالة تكون أنت في موقف لابد أن تفلت منك العبارة غير المتوقعة.
وسرّ الضحك برأيه هو ربط الخيوط وابتكار النتائج بلغة بسيطة لا تخطر ببال المتلقي ، يساعدك في ذلك الإمساك بالموضوع الأصل وتفجير الحالة غير المتوقعة التي تفاجئك كصفعة ، عندها تنفجر بالضحك.
لا يدري أبو هادي إن كان هو فعلا مؤلف للنكات كما يعده الكثيرون ، ويقول أنه يعيش على سجيته ولم يفتعل اقتناص الموقف وإخراج النكتة وإدارتها وحكيها ، كل ما في الأمر أنه يعلق على شيء يحصل أمامه أو حادثة يسمع بها ، ويرى بأن الآخرين هم الذين يعيدون تأليفها كل حسب طريقته ويحورونها ويضيفون ويحذفون منها.
ولا يتذكر نوري الحاج سعيد النكات التي يعتبر مؤلفها ولا يستطيع حصر عدد تقريبي لها ، فكما يقول ان حياتهم كلها بأيامها ولياليها كانت تسير على هذا النحو وبشكل غريزي كنا نعلق ونتبادل الضحك ونتنابز ونتنافس على أقوى تعليق وبإضافات الحضور تظهر النكتة لوحدها بدون تحضير ولا تعمد من احد.
عصف السنين
الباحة التي جلسنا عندها في البيت البغدادي القديم تطل منها نوافذ مترنمة لم يفتحها أحد منذ سنين ، مثل ذلك السلم الذي لا يعرف صالح هل كان سيقع بنا أم لا ، وطوال الساعات التي جلسنا فيها مع أقدم المضحكين في العراق ، كان رجال يدخلون ويخرجون وثمة من يدخل ويجلس وثمة من يدخل ليمرق في واحدة من غرف البيت ليمكث فيها ، لم نفهم سرّ هذا البيت الذي يدخل فيه الناس المختلفين كما لو كانوا في بيتهم ، وشعرنا بأن وجودنا يكلل المكان بالثقل ، فقد كانوا يحضرون لجلستهم المسائية المعتادة لكننا اقتحمنا عليهم خلوتهم هذه. قلت لهم بأنهم يعدون شيئا ما ، فكل من يدخل بيده كيس وثمة فلينة تستقر وسط المنزل وغرامفون قديم عليه أشرطة أقدم لأم كلثوم وبدا أن كل شيء معدا لاحتساء المساء. كسر اكتشافنا خجلهم فقد كانوا مترددين من إخراج القناني والمزات ، وبدوا كأطفال مرحين حال اكتشافهم بأننا لسنا من أولئك الذين يجلدون وخلال لحظات فقط كانت المائدة جاهزة بما فيها القناني المغشوشة.
ظهر من كان في منزويا في غرف البيت ليلتموا حول " البطل " يشوق من على وشك الرحيل ودلفت الكلمات لتخرج من مخادعها ، لتلك اللحظة التي سألتهم فيها : من اللحظة التي دخلت فيها بيتكم وأنا الذي يضحككم ، فكيف يقولون أنكم أشهر المضحكين في البلاد ؟!
النكات الآن
حول المضحكون العراقيون مآسي نهب البلاد الى قاموس " نكات الحواسم " التي ظهر الكثير منها وتخص أولئك الذين أثروا فجأة ويحاولون بأموالهم تغيير جلدهم الحقيقي والظهور بمستوى راق مزيف. صاحبتها النكات المصورة تلك المواقف ما بين المواطنين البسطاء جدا والأمريكان وكانت تخص المراحل الأولى ما بعد الحرب وسوء الفهم المنطقي الذي ينتج عنه تفاهم عراقي بسيط مع أمريكي.
وكان إغراق البلاد بالأطباق الفضائية وإطلاع الناس على النجوم والمطربات الحديثات وغيرها من وسائل تكنولوجية بدأت بالوصول الى العراق نكاتها أيضا.
وما أن ظهر " مجلس الحكم " وتحكيمه حسب الحروف الأبجدية حتى غزت النكات السياسية التي تناولتهم فردا فردا بلا شفقة أحيانا واستمرت الحالة للآن ، فقد توقفت الكثير من النكات عند وجوه جديدة في الصراع الدائر مثل السادة مقتدى الصدر وعبد العزيز الحكيم وسياسيين كبيان جبر وموفق الربيعي ، أما حصة الرئيس جلال الطالباني فكانت الأكثر. فقد ظهرت نكات ترجم فيها مؤلفوها عبارات صدام التي كان يحلو تكرارها الى الكردية مثل : فليخسأ الخاسئون وغيرها وركبوها على بيانات وهمية للرئيس الجديد وظهورها باللغة الكردية سيكون مضحكا بطبيعة الحال.
وظفوا مصائب حقيقية كفضيحة أبو غريب في مجلدات للنكات لا تعد ولا تحصى وكانت " أصيلة " وغير محرفة ومترجمة ، لأنها اتخذت من الفضيحة نفسها مادة دسمة لنكات ناجحة فنيا من وجهة نظر الإضحاك.
والبلاوي التي تتراكم عليهم من التكفيريين الذين يعتبرون ظاهرة جديدة على الحياة والمجتمع العراقي ، أفرزت نكاتها العديدة ، لاسيما تعليماتهم الدينية المتشددة وغيرها من المسائل ، حتى ظاهرة الانتحاريين ، أخرجوا منها نكات غاية في الفطنة.
أما سوء الخدمات والأزمات المتلاحقة ، فأدخلت معجمها الخاص في توليف النكات العراقية المعاصرة ، كما الحوادث الفردية المبهرة كاعتقال صدام في الحفرة واختفاء عزت الدوري الغامض الذي أعطى لهم فرصة كبيرة للتعليق عليه بنكات مستمرة للآن.
دواء الفقراء
يسمونها " دواء الفقراء " يغمسونها مع الخبز البائت ويتبادلونها بالمجان ملقية عليهم فترات من السحر وهيام مؤقت يدغدغ أعصابهم التعبى. ولا حل غير النكتة برأي مظهر الصافي الكاتب الاجتماعي العراقي ، لمواجهة الوعود الكاذبة والواقع الذي يعاكس تماما الأحلام البسيطة للناس ، فكما داعب أبو نواس هارون الرشيد ، كان قراقوش ظاهرة منطقية بمواجهة الحجاج وكذلك الحال اليوم بالنسبة للعراقيين الذين يستخدمون النكتة حاليا كوسيلة للتعبير عن رأيهم ، اعتراضهم أو تأييدهم ، سخريتهم وتجسيد آلامهم وتدجينها وليس وسيلة تهريج يخدرون الشعب بواسطتها كما كان أحوال سوق النكتة سابقا.
العراقيون يشخصون العلة تلو الأخرى وينتقدون أيا كان بلا استثناء ومن النادر أن يظهر أسم في المجالات المختلفة ، دون أن يباشروا في تفكيكه والتندر عليه.
النكتة أقرب أن تكون لبيانات الشوارع و المقاهي وأماكن العمل وسيارات نقل الركاب العمومية والأسواق الشعبية وصالونات الحلاقة وأرصفة التنزه ، هنا تسمع الأحكام من خلال نكتة لا تتجاوز بضعة كلمات يعقبها تعليق وإضافة وتنوع وهكذا. وكلما اتسعت دائرة المحرمات وضغط على حريات الناس وزادت مطالبهم ، ستكثر النكات وستزداد وقاحة وقسوة وقد تنزل مفرداتها وتفقد ذوقها وصبرها ، كشكل للإدانة يعجل في التبصر ورد الضيم أو جزء منه للجانب الأكبر من الشعب الذي يتشفى بالنكتة احيانا كثيرا ولا يتسلى بها ، ينقلها بغيض بدون هدف الضحك ، ليتحول فن الفقراء هذا الى محور يسجل التاريخ وكمراقب يلفظ الواقع بلسان سليط.
ومن بينهم هناك الذين ينقرون الكلمات بسرعة بديهية يبدو أنها موروثة جيل بعد آخر ، ففي التراث العربي العديد جدا من ملاك البديهية البارقة وذوو العقول التي تستجيب أسرع من غيرها للمحة والإجابة المستقرة في الجوهر.
واشتهرت الشعوب التي وقع عليها ضيم الأنظمة كما كان يعالج السوفيتي القسوة المفروضة عليه أبان الحكم الستاليني والمصري المضغوط كثيرا اقتصاديا وسياسيا وغيرهم من الشعوب التي كانت تصدر الضحك بالرغم من المعاناة البالغة التي تعيشها.
ويبدو أن العلاقة طردية ما بين الآلام والضحك عليها ، وتميز العراقيون منذ العهد الملكي باهتمامهم للنكتة والتعليق الطريف وكانت مجموعة "حبزبوز" التي أصدرت مجلة وجريدة واسعة الانتشار أكثر من قصائد الجواهري وبحر العلوم ، رائدة في مجال النكتة السياسية والاجتماعية ، فلم يتعرض له منشور عراقي من مضايقة ، قدر تعرضها ومجموعة الكتاب والمعلقين ورسامي الكاريكاتير الذين لم يتركوا قضية مهما كان حجمها ، إلا وعالجوها في نكتة أو رسم.
لقد كانت الحكومات التي تدرك عدم شرعيتها الكاملة تخاف أكثر من غيرها من النكتة الشعبية ، كما أن الكثير من الأنظمة ، العراقي السابق على سبيل المثال ، تؤسس هيئات خاصة تطارد النكتة وتسجلها وتعدلها وتغير اتجاهها ، وثمة الكثير من المعطيات التي تدلل على أن صدام كان مستمعا جيدا لتلك التقارير التي تحصر فيها " نكات الأسبوع " ويسمع ويدقق اكثر في تلك التي تتولى أمره أو عائلته او تاريخه وتصرفاته.
وكان لانتشار النكتة أوقات القمع الصدامي أثره البالغ حتى في سير الحياة اليومية للعراقي ، فقد أصدر " مجلس قيادة الثورة " قرارا يحاكم فيه بالإعدام من يتندر على " رمز الأمة " و " قائد نهضتها " ، وكانوا لا يعنون مؤلفي النكات فحسب ، فهؤلاء يغلوهم بالتيزاب ، بل كل من تسول له نفسه ويرددها أو يسمعها ، بل أن الأمر قسم كالتالي : فأحكام مؤلف النكتة عرفناها ، والذي يرددها إعدام 100 % والذي يسمعها ويضحك يرافقه الى المشنقة ومن يسمعها ويسكت دون أن يخبر سجن مؤبد.
وهذا القانون لم يشمل الذات الصدامية فحسب ، بل حددوا فيه ما كانوا يسمونه " القيادة " ، لكنهم حددوا العقوبة على النكات التي تشمل عزت الدوري فما دون بالسجن المؤبد.
ومع ذلك ، وبالرغم من إعدام المئات وربما الآلاف من العراقيين بسبب مزاح أو جلسة غير بريئة تخللتها بعض التعليقات المضحكة التي تخص "القيادة" وقائدهم الضرورة ، فأن العراقيين استمروا في التنفيس عما أصابهم ولم يستطع أحد من منع انتشار النكتة التي كانت النافذة الوحيدة المتاحة للابتسام في البلاد.
ترجمة وتحوير
واضطر النظام في مراحل كثيرة ، متعددة ومختلفة ، من توجيه الرأي العام بالنكتة ، من خلال التركيز على شخصيات أو طوائف أو قوميات ، وكانت أقسام مهمومة ومشغولة بترجمة النكات وتجميعها وتوزيعها من خلال الجهاز الحزبي الضخم المنتشر وسط الشعب ، بحيث وصلت المنافسة ما بين أقسام النكات في المخابرات الى إيصال النكتة وقياس سرعة انتشارها بين الناس بالساعات وليس بالأيام.
وبالرغم من أن النظام صنع شعرائه وكتابه وممجديه ومذيعيه ومطربيه ورساميه ، إلا أنه كان يعاني من قلة المنكتين وصناع الضحك المحترفين لديه، لذلك لجأ الى جانب ترجمة النكات العالمية ، الى تحوير النكات العربية ولاسيما المصرية واللبنانية لوضعها في قالب عراقي وتوجيهها بالشكل الذي يريدون.
الحلي والدليم
فقد أشغلوا العراقيين ليومنا هذا بالآلاف النكات الخاصة بسعدي الحلي ، والمرحوم هو مطرب شعبي يحبه العراقيون البسطاء للغاية وينتشر في أوساطهم ، لذلك تحول الى مادة دسمة للضحك ، لاسيما وأن النكات المرتبطة به تطرح مسألة هي بالأساس تثير الضحك ، وبالمناسبة هناك الآن موقع عراقي متخصص بالنكات أسمه : سعدي الحلي دوت كوم !! يمكن الدخول إليه والإطلاع على آلاف النكات الحديثة.
ويبدو أن صدام كان يبغى إبعاد النكات عنه وتوجيهها الى أي شخصية أخرى ، فوجدوا هذه الشخصية الشعبية الشهيرة لكي يؤلموه بها يوميا. ولم يكتفوا بذلك ، فقد انتشرت موجة فظيعة من النكات على قبيلة الدليم الواسعة الانتشار في وسط وغرب العراق بعد محاولة الانقلاب التي قادتها مجموعة محمد الدليمي ، فلم يكتف صدام بإعدامهم جميعا ومن والاهم ومن سلموا عليه بالصدفة ، بل وجه كل النكات العالمية والمحلية وخاصة المصرية التي تتناول شخصية الفلاح الصعيدي البسيط ، ليعرّقها ضد خصومه الدليم.
وكان يفعل الشيء نفسه مع غرمائه السياسيين ، فلم يمانع من انتشار النكات حول الرؤساء العرب أوقات خصوماته لهم ، بل شجعها وساهم في نشرها حتى على صفحات الصحف الرسمية وكانت قمة هذا العمل أوقات الحرب العراقية – الإيرانية حين اهتمت صحف رسمية كالثورة والجمهورية في بث رسوم ونكات مستمرة على القيادات الإيرانية ورجال الدين المعممين بشكل عام.
وجوه اجتماعية
وعلى مدار العصور ، كان صناع الضحك في العراق الأشهر من الساسة والعلماء والشعراء والفنانين ، فلا يوجد أحد في البصرة لا يعرف " تومان " أو " غنـّو " أو " حميد كلن " ، كما لا ينسى المضحكون رائدهم حبزبوز ورسامين كاريكاتير كانوا يستدرجون النكات يوميا مثل غازي وبسام فرج وخضير الحميري وعباس فاضل وضياء الحجار. فلم يفوتوا مناسبة واحدة أو تصريح فيه مرونة للنقد أو حتى إشاعة دون أن يلتقطونها ، فمثلا يبرزون الجدل حول الدستور ، حيث يقول طبيب لمريض : لا تقلق فقراتك كلها جيدة ، المشكلة في مكان آخر . وذلك المتقاعد الذي يطمأن زميله في المظاهرة التي تطالب برواتبهم: لم يبق شيء ، كلها 90 مظاهرة و 140 احتجاج و70 اعتصام ويستجيبون لمطالبنا.
وحول المتاريس والكتل الإسمنتية التي تملأ شوارع وساحات البلاد ويصورون العراق كسيارة قديمة متعبة يحمل صخور الأزمات المصطنعة والقوانين المزاجية والبيروقراطية والفساد الإداري والدكتاتورية والسجون وتقترب النكتة العراقية المعاصرة من الصورة الحقيقية التي تعيشها البلاد ، ولعل هذا الاتفاق ، يجيز للناس تداولها بلا مشقة ولا خوف ففيها كل العناصر الناجحة من حيث الشكل ودقة الاختيار ولمحة التعليق.
المضحكون المجهولون
وإذا كان ثمة مضحكين معروفين ولديهم فرص التعبير عن تعليقاتهم وتلميحاتهم المضحكة عبر الصحف أو التلفزيون وأحيانا يسجلونها على كاسيتات وتوزع على الأرصفة ، فهناك المضحكون المحترفون ، الذين تنبع منهم كل النكات الشعبية المعروفة ، وليس تلك المترجمة أو المحورة أو المسروقة من كتب التاريخ والتراث والفلكلور ، وعثرنا على المجموعة الأهم في واحدة من أقدم الأحياء البغدادية.
لقد تجاوز أصغرهم الآن الستين وكانوا فيما قبل مراكز الترفيه أين يحلون. ولم تكن غير المقاهي وجلسات السمر في باحات الخانات أو دار من أصبح عازبا منهم لسبب أو لآخر ، الساحات التي يغردون فيها أجمل النكات.
يقول أبو هادي ، بأن المحيطين بك هم الذين يساعدونك في تركيب النكتة وإطلاقها ، فهم المهيئين لأجوائها وبدونهم لا تستطيع الجلوس وتاليف نكتة ، فالمسالة ، باعتقاده ، ليست بسيطة كما تسمع نكتة معادة من أحدهم ، ففي هذه الحالة تكون أنت في موقف لابد أن تفلت منك العبارة غير المتوقعة.
وسرّ الضحك برأيه هو ربط الخيوط وابتكار النتائج بلغة بسيطة لا تخطر ببال المتلقي ، يساعدك في ذلك الإمساك بالموضوع الأصل وتفجير الحالة غير المتوقعة التي تفاجئك كصفعة ، عندها تنفجر بالضحك.
لا يدري أبو هادي إن كان هو فعلا مؤلف للنكات كما يعده الكثيرون ، ويقول أنه يعيش على سجيته ولم يفتعل اقتناص الموقف وإخراج النكتة وإدارتها وحكيها ، كل ما في الأمر أنه يعلق على شيء يحصل أمامه أو حادثة يسمع بها ، ويرى بأن الآخرين هم الذين يعيدون تأليفها كل حسب طريقته ويحورونها ويضيفون ويحذفون منها.
ولا يتذكر نوري الحاج سعيد النكات التي يعتبر مؤلفها ولا يستطيع حصر عدد تقريبي لها ، فكما يقول ان حياتهم كلها بأيامها ولياليها كانت تسير على هذا النحو وبشكل غريزي كنا نعلق ونتبادل الضحك ونتنابز ونتنافس على أقوى تعليق وبإضافات الحضور تظهر النكتة لوحدها بدون تحضير ولا تعمد من احد.
عصف السنين
الباحة التي جلسنا عندها في البيت البغدادي القديم تطل منها نوافذ مترنمة لم يفتحها أحد منذ سنين ، مثل ذلك السلم الذي لا يعرف صالح هل كان سيقع بنا أم لا ، وطوال الساعات التي جلسنا فيها مع أقدم المضحكين في العراق ، كان رجال يدخلون ويخرجون وثمة من يدخل ويجلس وثمة من يدخل ليمرق في واحدة من غرف البيت ليمكث فيها ، لم نفهم سرّ هذا البيت الذي يدخل فيه الناس المختلفين كما لو كانوا في بيتهم ، وشعرنا بأن وجودنا يكلل المكان بالثقل ، فقد كانوا يحضرون لجلستهم المسائية المعتادة لكننا اقتحمنا عليهم خلوتهم هذه. قلت لهم بأنهم يعدون شيئا ما ، فكل من يدخل بيده كيس وثمة فلينة تستقر وسط المنزل وغرامفون قديم عليه أشرطة أقدم لأم كلثوم وبدا أن كل شيء معدا لاحتساء المساء. كسر اكتشافنا خجلهم فقد كانوا مترددين من إخراج القناني والمزات ، وبدوا كأطفال مرحين حال اكتشافهم بأننا لسنا من أولئك الذين يجلدون وخلال لحظات فقط كانت المائدة جاهزة بما فيها القناني المغشوشة.
ظهر من كان في منزويا في غرف البيت ليلتموا حول " البطل " يشوق من على وشك الرحيل ودلفت الكلمات لتخرج من مخادعها ، لتلك اللحظة التي سألتهم فيها : من اللحظة التي دخلت فيها بيتكم وأنا الذي يضحككم ، فكيف يقولون أنكم أشهر المضحكين في البلاد ؟!
النكات الآن
حول المضحكون العراقيون مآسي نهب البلاد الى قاموس " نكات الحواسم " التي ظهر الكثير منها وتخص أولئك الذين أثروا فجأة ويحاولون بأموالهم تغيير جلدهم الحقيقي والظهور بمستوى راق مزيف. صاحبتها النكات المصورة تلك المواقف ما بين المواطنين البسطاء جدا والأمريكان وكانت تخص المراحل الأولى ما بعد الحرب وسوء الفهم المنطقي الذي ينتج عنه تفاهم عراقي بسيط مع أمريكي.
وكان إغراق البلاد بالأطباق الفضائية وإطلاع الناس على النجوم والمطربات الحديثات وغيرها من وسائل تكنولوجية بدأت بالوصول الى العراق نكاتها أيضا.
وما أن ظهر " مجلس الحكم " وتحكيمه حسب الحروف الأبجدية حتى غزت النكات السياسية التي تناولتهم فردا فردا بلا شفقة أحيانا واستمرت الحالة للآن ، فقد توقفت الكثير من النكات عند وجوه جديدة في الصراع الدائر مثل السادة مقتدى الصدر وعبد العزيز الحكيم وسياسيين كبيان جبر وموفق الربيعي ، أما حصة الرئيس جلال الطالباني فكانت الأكثر. فقد ظهرت نكات ترجم فيها مؤلفوها عبارات صدام التي كان يحلو تكرارها الى الكردية مثل : فليخسأ الخاسئون وغيرها وركبوها على بيانات وهمية للرئيس الجديد وظهورها باللغة الكردية سيكون مضحكا بطبيعة الحال.
وظفوا مصائب حقيقية كفضيحة أبو غريب في مجلدات للنكات لا تعد ولا تحصى وكانت " أصيلة " وغير محرفة ومترجمة ، لأنها اتخذت من الفضيحة نفسها مادة دسمة لنكات ناجحة فنيا من وجهة نظر الإضحاك.
والبلاوي التي تتراكم عليهم من التكفيريين الذين يعتبرون ظاهرة جديدة على الحياة والمجتمع العراقي ، أفرزت نكاتها العديدة ، لاسيما تعليماتهم الدينية المتشددة وغيرها من المسائل ، حتى ظاهرة الانتحاريين ، أخرجوا منها نكات غاية في الفطنة.
أما سوء الخدمات والأزمات المتلاحقة ، فأدخلت معجمها الخاص في توليف النكات العراقية المعاصرة ، كما الحوادث الفردية المبهرة كاعتقال صدام في الحفرة واختفاء عزت الدوري الغامض الذي أعطى لهم فرصة كبيرة للتعليق عليه بنكات مستمرة للآن.
دواء الفقراء
يسمونها " دواء الفقراء " يغمسونها مع الخبز البائت ويتبادلونها بالمجان ملقية عليهم فترات من السحر وهيام مؤقت يدغدغ أعصابهم التعبى. ولا حل غير النكتة برأي مظهر الصافي الكاتب الاجتماعي العراقي ، لمواجهة الوعود الكاذبة والواقع الذي يعاكس تماما الأحلام البسيطة للناس ، فكما داعب أبو نواس هارون الرشيد ، كان قراقوش ظاهرة منطقية بمواجهة الحجاج وكذلك الحال اليوم بالنسبة للعراقيين الذين يستخدمون النكتة حاليا كوسيلة للتعبير عن رأيهم ، اعتراضهم أو تأييدهم ، سخريتهم وتجسيد آلامهم وتدجينها وليس وسيلة تهريج يخدرون الشعب بواسطتها كما كان أحوال سوق النكتة سابقا.
العراقيون يشخصون العلة تلو الأخرى وينتقدون أيا كان بلا استثناء ومن النادر أن يظهر أسم في المجالات المختلفة ، دون أن يباشروا في تفكيكه والتندر عليه.
النكتة أقرب أن تكون لبيانات الشوارع و المقاهي وأماكن العمل وسيارات نقل الركاب العمومية والأسواق الشعبية وصالونات الحلاقة وأرصفة التنزه ، هنا تسمع الأحكام من خلال نكتة لا تتجاوز بضعة كلمات يعقبها تعليق وإضافة وتنوع وهكذا. وكلما اتسعت دائرة المحرمات وضغط على حريات الناس وزادت مطالبهم ، ستكثر النكات وستزداد وقاحة وقسوة وقد تنزل مفرداتها وتفقد ذوقها وصبرها ، كشكل للإدانة يعجل في التبصر ورد الضيم أو جزء منه للجانب الأكبر من الشعب الذي يتشفى بالنكتة احيانا كثيرا ولا يتسلى بها ، ينقلها بغيض بدون هدف الضحك ، ليتحول فن الفقراء هذا الى محور يسجل التاريخ وكمراقب يلفظ الواقع بلسان سليط.