ها هي أهم عاصمة غربية تقليدية تعصف بها موجة عنف غير مسبوقة، لتجد نفسها أمام محترفين للقمع ينصحونها بـ«ضبط النفس»، وكأنها تتذوق من الكأس الشديدة المرارة التي طالما أسقتها للآخرين।
ويكاد الأسلوب يتشابه، باختلاف المقاصد والأهداف، بين حركات تغيير أطلقوا عليها بدون اتفاق «الربيع العربي»، والشكل العام الذي بدت عليه حركة الشارع الفوضوية الميالة للعنف وخرق القانون الذي تفتخر المدينة بتصديره للشعوب.
ونفسه، الإنترنت، بعالمه الافتراضي الواسع الذي بدأ الخروج عن السيطرة، مربيا جيله الذي لا يمشي على الأرض.
لقد اكتسب الفتيان تجاربهم من «البلاك بيري» و«البلاي ستيشن» وأفلام العنف والفنتازيا المشوشة، ونمت معها عضلات غير متوافقة مع طموحاتهم، وطاقات غير مواتية لأحلامهم، فكان خيارهم الحصول على الهدف بأقصر الطرق حتى لو مالت أساليبهم إلى العنف وخرق قوانين الكبار، طالما أن الكبار أنفسهم هم الذين سمحوا لهم بالعيش الافتراضي، وسط هرولة الطبقة الوسطى وما دونها لتكفل النفقات الآخذة بالتوسع في عالم لا يرحم.
كما أثر «وهم الاستقرار» وسراب خطط الحزب الفائز بالسنوات المقرّة، في أن كل شيء على ما يرام ومن الممكن «التحرش» وزيادة أقساط الدراسة، وطالب العلم قد يصبر على بطنه، لكنه سيثور لو حرموه من عقله، فكانت احتجاجات الطلبة الإنذار المبكر لما سيحصل.
المظلوم لا يعرف السلام
لا يحتاج الأمر للفلسفة والسيكولوجيا لتبرير العنف، لكن «حرق لندن» لا ينصاع للتصريحات ولا يتم إطفاؤه بالحجج، فالشعب المظلوم يلجأ إلى الشغب للحصول على العدالة، وبالتالي لا يمكن أن نتصور مجتمعا مسلوب الحق يعيش بسلام.
من جانب آخر، نشهد أن العواصم التي تبنت «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» أكثرها عرضة لخرقه، فالناس– حسب الإعلان– لديهم حق التجمع والتنظيم والاضراب والاعتصام والعصيان والمقاطعة، وفي ظروف أعسر، لها الحق في التمرد (كما هو الحال في المدن البريطانية اليوم).
بموازاة ذلك، من غير الممكن تخيل الحصول على الحق في سلك العنف والشغب.
إن الشعوب تحصل على حقوقها، ليس بانتزاع القوي منها والذي يخرق القانون العام، على الغنائم، من جاره أو ممتلكات شخصية أو عامة، فسرقة موبايل وجهاز تلفزيون أو جينز وتبييض الوجه ببودرة مسلوبة لم يكن أبدا عملا ثوريا، بل هو تعبير عن إحباط من عدم الحصول على «الكعكة الاقتصادية»، والفطيرة الريعية التي بدأت تتقلص يوما تلو الآخر.
وأما في الغرب، الذي نعتقد أنه مقبل على «حرائق» مماثلة، فهناك استياء في المجتمع لأن الآلة الرأسمالية دفعت الناس إلى الهامش، ويصحون كل يوم على أنباء فقدان العمل، والعاطلون بالنتيجة، يتضاءل أملهم في الحصول على عمل. ناهيك عن اتساع الهوة بين الأغنياء والجميع، وهذا يحصل على نطاق واسع. فماذا يفعل الشبان في هذه الحالة؟
التململ وأساليبه
لا بد أن يندفعوا إلى الاكتئاب الذي يفرز الغضب الذي يقود إلى الكحول والمخدرات والعنف البدني الأسري، الذي يتبناه المضغوطون من الفشل والرفض من منظومة دولة بدأت تدير ظهرها لحلول هيكلية تعالج فيها مكامن الظلم في المنظومة الاجتماعية.
الآباء سيسكتون الفتيان بجهاز «بلاك بيري» في يوم الميلاد، ليغوصوا معه في العالم الافتراضي الذي يجدونه أفضل من منظر الوالدين البائسين بالقروض والأقساط والسيارة المعطلة والتهديد المذلّ بالطرد من العمل، وسيختارون أفضل وسيلة لتلهية أوجاعهم، ذلك بالحصول على ما فقدوه وحرموا منه بأيديهم.
يقول جاك ليفين، وهو أستاذ في علم الاجتماع وعلم الإجرام في جامعة نورث إيسترن، إن معظم أعمال الشغب تتشكل من مرحلتين: الأولى إسقاط هوية فرد أو مجموعة، والثانية محاولة هذا الفرد أو المجموعة الإعراب عنها (الشخصية)، سواء كانت عنصرا أو سلبا لحق (ظلم). ويمكننا أن نضيف عليه حافزا ثالثا– حسب تجارب ثوراتنا– وهو توفر كل المبررات من أجل التغيير.
التاريخ يتكلم
في هذا الصدد فقط سنلجأ الى التاريخ، لأن المؤرخين كانوا الأجدر في إثارة أسباب العنف في أوروبا عن زملائهم علماء الاجتماع والنفس. والتاريخ يشهد على قائمة طويلة جدا من أعمال الشغب حدثت في أوروبا. لذلك يبدو أن عدم التنبؤ باشتعال نيران سببتها انت هو «حمق سياسي».
والطريف في الأمر، أن أسباب الحكومة وأسباب الفتيان واضحة بما يكفي، فحصر الاتهامات بـ«بلطجية لندن» و«الأجندة الخارجية» أمر مثير للشفقة.
وسنذهب إلى أبعد من ذلك، فمنظومة السلطة في الغرب لم تفشل سياسيا فحسب، بل أمعنت في الفشل الأخلاقي. فهي لم تكن الأب الرحيم، ولا الحاكم العادل، لم تراع الضغوط الكامنة التي تصنع المجرمين وتولد العنف، وتركت «أبطال الركود» طلقاء يعيثون بالاقتصاد عبثا، فيما تنتشل المجرمين الصغار في هوامش المدن وتحرمهم حتى من القمامة.
لم تحاسب من اقترف الأخطاء المدمرة في الاقتصاد والحروب الخارجية التي أدت إلى الركود الحالي. والشبان يرون كل شيء سائرا نحو الأسوأ على حساب الإنفاق في المجالات الاجتماعية والبرامج العامة التي تمسهم مباشرة، لذلك ليس أمامهم غير ممارسة «متعة» العالم الافتراضي، لكن هذه المرة في شوارع المدينة وبدلا من تحطيم العدو في لعبة فيديو، هناك الكثير من الرموز الواقعية يمكن النيل منها.
انتصار العالم الافتراضي
لقد فشلت الأساليب التقليدية بشكل ذريع في معالجة الأزمة، فصفارات سيارات الشرطة لا تخيف أحدا، والوضع في الإعلام هو الآخر تغير. وتراجع التحرير الميداني، وكان مثيرو الشغب أبطال التغطية أيضا عبر «تويتر» باستجابتهم الفريدة والمباشرة لما يحصل ولأنه غير خاضع للرقابة و«الأعراف المهنية».
هكذا تحولت مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية إلى أهم مصدر لتنظيم العمل الجماعي ووفرت الاتصالات الفورية وتكتيك التمويه والخداع. ولم يكن لدى شرطة لندن غير إلقاء اللوم على «تويتر» (تماما كحال منظوماتنا الأمنية)، متهمة الموقع بقيادة أعمال الشغب.
عدوى الثورات
يتساءل الكثيرون، محاولين ربط ما يحصل في لندن بالثورات العربية، إن كانت فعلا قد وصلتهم «العدوى».
علماء النفس والاجتماع يعتقدون أن أي إنسان يمكن أن تداهمه «نوبات النهب»، ولكي ينتقل إلى مرحلة «الشغب» ينبغي أن ينضم إليه المزيد من الأفراد الذين يعرفون بعضهم بعضا، وبفعل ضغوط الأصدقاء يتشجعون للقيام بأعمال خارجة عن المألوف لكي يدعموا شعورهم بالظلم، وربما يكون هذا «الظلم» بسبب قرار تحكيمي خاطئ في مباراة رياضية أو ما هو أسخف من هذا السبب.
لذلك، لا ينبغي التركيز على «العنصر الجنائي» في الأحداث الكبرى التي تهزّ المجتمعات المستقرة، لأن في ذلك إصرارا على تغييب المشكلة الحقيقية، ولأن من الصعوبة التنصل من الأخطاء السياسية واعتبار ما يحصل عمليات إجرامية و«عصابات مسلحة وإرهابية»، كما تفعل الأنظمة الدكتاتورية.
أخيرا، نستغرب من حكومة كان أسلافها ينتدبون ليحكموا مستعمرات العالم، تقدم على التقشف مع الطلبة وتحاصرهم برزقهم العلمي، ويزيد استغرابنا، أن أحدا في الحكومة لم يتنبأ بالنتيجة وبالمصير المحتوم، فعندما تشعل الفتيل، لابد أن تنتظر الحرائق।
رابط المقال